التاريخ والأدب
الجرعة اليومية من العلوم
مؤسسة علمية تطوعية هدفها نشر وتبسيط العلوم، وإثراء المحتوى العربي العلمي عبر الإنترنت.
مع كل متابعة جديدة
اشترك في القائمة البريدية سيصلك كل جديد
كن متابعاً أولاً بأول، خطوة بسيطة وتكون ممن يطلعون على الخبر في بداية ظهورة، اشترك الآن في القائمة البريدية
مقالات ذات صلة
شاهد أيضاً
إغلاق - أبو بكر الرازي (865 – 925 م) | الحاوي في الطب18 مارس، 2021
في أحد شوارع الإسكندرية بمصر عام 415 أو 416 م، قامت مجموعة من المسيحيين المُتعصبين بقيادة القديس بيتر، بمُطاردة عربة امرأة وسحبها منها إلى الكنيسة؛ حيث جردوها من ملابسها وضربوها بالحجارة حتى الموت، ومن ثَمَّ مزقوا جسدها وأحرقوها.
فمَن كانت تلك المرأة؟ وما هي جريمتها؟
“هيباتيا”، واحدة من أواخر أعظم علماء الإسكندرية القديمة ومُفكريها العظماء، وواحدة من أوائل النساء اللائي تعلمن ودرَّسن الرياضيات، والفلك، والفلسفة، وعلى الرغم من شهرتها أكثر بموتها العنيف، إلا أنَّ حياتها الدرامية هي صورة رائعة يمكننا من خلالها رؤية موقف العلم في عصر الصراع الديني والطائفي.
الإسكندرية في عصر هيباتيا:
أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 ق.م، وسرعان ما نمت لتصبح مركزًا للثقافة والتعلُّم للعالم القديم، وأُنشأ متحفًا في قلب الإسكندرية كان يُعتبر جامعة، وتمَّ وضع مجموعته التي تزيد عن نصف مليون مخطوطة في مكتبة الإسكندرية.
شهدت الإسكندرية تراجعًا بطيئًا بدءًا من عام 48 ق.م، عندما غزا “يوليوس قيصر” المدينة وأحرق المكتبة عن طريق الخطأ (ثم أُعيد بناؤها).
عندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية وأصبحت الإسكندرية جزءًا من النصف الشرقي، كانت المدينة تعاني من الصراعات بين المسيحيين واليهود والوثنيين، فاندلعت الحروب الأهلية نتيجة لذلك، ودُمر الكثير من مُحتويات المكتبة.
من المُحتمل أنَّ البقايا الأخيرة اختفت بالإضافة للمتحف في391 م؛ عندما قام رئيس الأساقفة ثيوفيلوس (archbishop Theophilus)، بناء على أوامر من الإمبراطور الروماني بتدمير جميع المعابد الوثنية، وفعلًا دمر ثيوفيلوس معبد سيرابيس (Serapis)، الذي كان يضم الكثير من المخطوطات، وبنى كنيسة في نفس الموقع.
هيباتيا ترث مجد أبيها:
كان عالم الرياضيات والفلكي ثيون (Theon)، والد هيباتيا آخر عضو من أعضاء المتحف، ويُعزى إليه الفضل في الحفاظ على مجموعة “الأصول” لإقليدس؛ فقد ظلت شروحات ثيون هي النسخة الوحيدة المعروفة لمجموعة “الأصول” حتى القرن التاسع عشر.
لا يُعرَف الكثير عن حياته العائلية وعن هيباتيا، حتى تاريخ ميلادها كان محل جدال ما بين 370 و350 م، كما أنَّ هوية والدتها ظلت لغزًا مُعقدًا، وربما كان لدى هيباتيا أخ يُدعى إبيفانيوس (Epiphanius)، التلميذ المُفضل لثيون.
قام ثيون بتدريس الرياضيات وعلم الفلك لابنته، وقامت بمُشاركته في بعض شروحاته.
نجم هيباتيا يسطع في سماء الإسكندرية:
كانت عالمة بالرياضيات والفلك، وتقوم بكتابة الشروحات الخاصة بها؛ حيث يُعتقَد أنَّ الكتاب الثالث من نسخة ثيون من شرح كتاب المجسطي (Almagest) لعالم الفلك والرياضيات كلاديوس بطليموس -يُعتبر هذا الكتاب دليلًا فلكيًا لتصور بطليموس للكون باعتبار الأرض هي مركزه، وظل هذا التصور قائمًا حتى وقت كوبرنيكوس وجاليليو- كان هذا الشرح منسوبًا لهيباتيا.
كما قامت بتعليم سلسلة من الطلاب الدروس في منزلها، تضمنت هذه الدروس كيفية تصميم الإسطرلاب وهو نوع من الآلات الحاسبة الفلكية المحمولة، استُخدمت حتى القرن التاسع عشر.
كانت أيضًا فيلسوفة، حيث اتبعت ما يعرف الآن باسم المدرسة الأفلاطونية الحديثة (وهي نظام إيماني يعتقد مُريديه أنَّ كل شيء في الوجود ينبعث من “الواحد”)، وكانت مُحاضراتها العامة مُشوقة وجذبت الكثير من المُستمعين؛ فقد كان لها تأثير ساحر على الناس بأفكارها المُميزة وتفسيراتها المُقنعة، في تصرفاتها الحكيمة وحماسها الدائم، كما رُحب بها من بقية المدينة بشكل مُناسب وأُعطيَت احترامها الخاص.
لم تتزوج هيباتيا مطلقًا، ربما كان ذلك تماشيًا مع أفكار أفلاطون بشأن إلغاء نظام الأسرة.
كما عُرف عنها شدة الجمال، وكان من أحد المُعجبين بها حاكم الإسكندرية أوريستيس (Orestes)، والذي سيؤدي ارتباطها به في النهاية إلى وفاتها.
الصراع في الإسكندرية:
كانت بداية التطرف الديني في الإسكندرية في عهد ثيوفيلوس (Theophilus)، رئيس الأساقفة الذي دمر آخر مكتبة الإسكندرية الكبرى، جاء من بعده ابن أخيه عام 412 م ويُدعى سيريل (Cyril)، الذي واصل تقاليد عمه في الأعمال العدائية تجاه الأديان الأخرى، وكان من أول أعماله إغلاق ونهب الكنائس التابعة للطائفة المسيحية الجديدة.
كان هناك صراعًا بين سيريل رئيس الأغلبية الدينية ألا وهي المسيحية، وأوريستيس حاكم الإسكندرية والمسؤول عن الحكومة المدنية، وشبَّ الصراع بينهما على حُكم الاسكندرية، وعلى الرغم من كون أوريستيس مسيحيًا، لكنه لم يرغب في التنازل عن السلطة للكنيسة.
وصل الصراع على السلطة ذروته بعد مذبحة للمسيحيين ارتكبها المُتطرفون اليهود، نتيجة لذلك قاد سيريل جيشًا وقام بطرد جميع اليهود من المدينة ونهب منازلهم ومعابدهم.
رفع أوريستس اعتراضه على تصرفات سيريل للحكومة الرومانية في القسطنطينية، فبدأت مُحاولات الصلح بينهما ولكنها بائت بالفشل ورفض أوريستس الصلح، عندها حاول رهبان سيريل اغتياله ولكن لم ينجحوا.
فقرروا الانتقام من أوريستس بطريقة أخرى، بقتل هيباتيا.
المكيدة ونهاية هيباتيا المأساوية:
كانت هيباتيا هدفًا أسهل؛ فقد كانت وثنية، وكانت تتحدث علانيةً عن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة غير المسيحية، مما يُمهد للعامة تَقبُّل مقتلها، كما أنها كانت مُحاطة بحراسة أقل من أوريستس.
تمَّ تدبير مكيدة مُحكمة للتخلُص منها، فقد انتشرت الشائعات بأنَّ هيباتيا هي التي تُؤجِج نار الفتنة بين أورستس وسيريل وتمنعهما من تسوية خلافاتهما، ومن هنا قام القديس بيتر ومجموعة من عصابته بالترصُد لها وقاموا بفعلتهم تلك، وتُوفيت هيباتيا بتلك النهاية المأساوية.
ضحية التعصُب الديني وتخليد ذكراها:
منذ ذلك الوقت، أصبحت هيباتيا رمزًا للنسوية وشهيدة للوثنيين والمُلحدين، استخدم فولتير (Voltaire) قضيتها لإدانة الكنيسة والدين، كما جعلها رجل الدين الإنجليزي تشارلز كينغسلي (Charles Kingsley) موضوعًا وسط الرومانسية الفيكتورية.
في السينما، جسدت دورها الممثلة راشيل وايز (Rachel Weisz)، في الفيلم الأسباني أغورا (Agora) والذي يروي قصة خيالية عن هيباتيا وهي تُناضل من أجل إنقاذ المكتبة من المُتعصبين المسيحيين.
لم تَمُت الوثنية ولا علم الإسكندرية مع هيباتيا، وكتب ديكين: “وحدها تقريبًا، التي دافعت عن القيم الفكرية، والرياضيات الصارمة، والأفلاطونية الحديثة، وصوت الزهد والاعتدال في الحياة المدنية”.
كانت ضحية التعصُب الديني؛ وظلت مصدر إلهام حتى في العصر الحديث.
المصدر
كتابة: منة الله منصور
مراجعة: آية ياسر
تحرير: اسماء مالك