الطب

كيف يمكن لهواء يمنحنا الحياة أن يكون سببًا في موتنا؟

يتكرر كثيرًا مشهد الشرير الذي يتسلل إلى غرفة العناية المركزة ويقوم بحقن البطل الطيب بحقنة هواء ويراقبه وهو يموت، ثم يرحل الشرير بهدوء، وبعد عشرين عامًا ينتقم ابن البطل من الشرير!

بعيدًا عن الدراما، فإن الهواء ضروري جدًا للحياة، حيث أن التنفس يوفر الأكسجين اللازم لحرق الغذاء وإنتاج الطاقة وقيام الخلايا بوظائفها الحيوية، كما يتم به التخلص من ثاني أكسيد الكربون الناتج من الاحتراق، وتوقف التنفس لعدة دقائق يمكن أن يكون مميتًا، فقط جرب أن تحبس نفسك لدقائق واختبر ما يحدث. فكيف إذن يمكن للحقنة الفارغة أن تكون مميتة؟ كيف يمكن لمن يعطينا الحياة أن ينتزعها منا؟

 

إن انسداد الأوعية الدموية بالانسدادات الهوائية (air embolism) -لنسميها في هذا المقال فقاعة الهواء الدموية للتسهيل- هي تجمع عدد من فقاعات الهواء معًا عند نقطةٍ ما، مما يقطع الإمداد الدموي في تلك النقطة. فالدم متصل ببعضه كالحبل في حلقة، والقلب يقوم بشد الحبل وتحريكه حول الحلقة، ولكنفقاعة الهواء تعمل على قطع اتصال الحبل في نقطةٍ ما، مما يخل تمامًا بالدورة الدموية ويؤذي القلب. ولكننا نتنفس الهواء، فهل يسبب ذلك حدوث الفقاعة الهوائية؟ لا؛ لأن الأكسجين يُذاب في سائلٍ بداخل الحويصلات الهوائية بالرئة وينتقل للدم في حالة سائلة، بينما تحدث المشكلة عند تجمع الهواء في حالته الغازية.

 

إن عواقب الفقاعة الهوائية ضعيفة نسبيًا عندما تحدث في الوريد؛ حيث أن الرحلة شارفت على الانتهاء، وتتوقف الفقاعة في الرئة ويتم علاجها، تزداد خطورتها إن كانت في شريان؛ لأنها يمكن أن تمنع الدم المؤكسج من الوصول إلى الأعضاء. وتتراوح المشكلة باختلاف العضو؛ فإن استقرت في القلب تؤدي إلى أزمة قلبية، وتصل العواقب أقصاها إن حدثت في الجهاز العصبي المركزي حيث يمكن أن تؤدي إلى سكتة دماغية، وإذا تم حقن 2-3 ملليلتر فقط في أوعية الدماغ من الممكن أن تقتل إنسانًا بالغًا، ويكفي حوالي 200 ميلليلتر تقريبًا عن طريق الوريد لقتل أي إنسان!

 

الغالبية العظمى من المصابين هم الغواصون. وفي الواقع معظم الوفيات بين الغواصين تكون بسبب الفقاعات الدموية، ولكن كيف؟
درست في صف الفيزياء أنه يمكن تحويل المادة من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة بزيادة الضغط، وتعود للحالة الغازية مرة أخرى بتقليل الضغط. فأثناء هبوط الغواص تحت الماء يزداد الضغط الواقع على جسمه ورئتيهِ بما فيهما الغاز الذي يتنفسه (الأكسجين والنيتروجين)، فالأكسجين يتم استهلاكه ولكن النيتروجين يتجمع في الأنسجة. وعند صعود الغواصين إلى السطح بسرعة لا يتم منح النيتروجين الوقت الكافي ليُعاد امتصاصه في الدم بحالته السائلة، ويترك الأنسجة للدم في صورته الغازية ويتجمع مكونًا فقاعة.

 

لم تستوعب الأمر؟ لنترك صف الفيزياء الممل. فقط أحضر زجاجة مياه غازية، رجها وافتحها مرة واحدة، ماذا حدث؟ الزجاجة وهي مضغوطة تحبس ثاني أكسيد الكربون بداخلها بحالته السائلة، الانتقال السريع بين الضغط ما قبل فتح الزجاجة وبعدها يسمح لثاني أكسيد الكربون بالهروب بسرعة على هيئة فوران، إن فتحت الغطاء بالتدريج لن تتكون الفقاعات.

 

وهناك سبب آخر لها وهو تمزق حويصلات الرئة؛ حيث يتمدد حجم الغاز بسرعة بسبب فرق الضغط بشكلٍ لا يتحمله نسيج الحويصلات الرقيق، فتتمزق مما يسمح للغاز بالدخول إلى مجرى الدم. كما تتكون الفقاعات أيضًا أثناء العمليات الجراحية ولكن بشكلٍ نادر، وأخطر تلك العمليات هي عملية إزالة جزء أو فص من المخ وتتم والمريض في وضع الجلوس، الولادة القيصرية، أثناء غسيل الكلى، عمليات القلب المفتوح وأخذ عينة من الرئة.

 

بالطبع يمكن أن يتبادر لذهنك أن الجروح يمكن أن تسبب الفقاعات الدموية، لكن لا.
فقد درست في نفس صف الفيزياء الممل السابق أن المواد تتحرك من الضغط الأعلى إلى الضغط الأقل، والضغط في الدم أعلى من ضغط الهواء الجوي، إذن لا يدخل الهواء إلى الدم. لكن الضغط في منطقة الرأس والرقبة أقل من الهواء الجوي، أي أن العمليات في تلك المنطقة يمكن أن تسببها.

 

ومن أعراض الانسدادات الهوائية ألم في المفاصل والعضلات، خلل في إيقاع دقات القلب وانخفاض ضغط الدم والدوار، صعوبة في التنفس وآلام في الصدر، رؤية ضبابية وهلوسة بصرية وسمعية، حكة في البشرة، تشنجات وارتعاشات وأحيانًا شلل في الأطراف، نزيف من الفم وقيء وغثيان، تلون البشرة بلون أزرق وفقد الوعي. تظهر تلك الأعراض على الغواصين المصابين في خلال 10-20 دقيقة، وعندها يجب أن يستلقوا على ظهورهم مع إمدادهم بالأكسجين بتركيز 100% والذهاب بسرعة للمستشفى.

 

الأعراض السابقة يمكن أن تكون بسبب أمراض أخرى، والخط الفاصل بينها هو تاريخ المريض وقيامه بالغوص أو عملية جراحية، ويتم التشخيص بالأشعة السينية وسماع دقات القلب. ويمكن لطبيب التخدير من ملاحظة ذلك بمتابعة تنفس المريض أثناء العمليات. أما العلاج فيعتمد على السبب، فإن كان السبب هو الغوص، ينقل المريض بسرعة إلى غرفةٍ ذاتَ ضغطٍ عالٍ، حيث يوضع المريض ويتنفس الهواء في ضغط مرتفع، وسيجبر الضغط المرتفع الفقاعة أن تُمتص في الدم ويصغر حجمها، ويتم تقليل الضغط في الغرفة بالتدريج، مما يحاكي الصعود البطيء في الغوص.

 

إن الغوص مغامرة جميلة، ولكن شتان بين المغامرة والتهور، ولكي تغامر دون عواقب غير مرغوب بها ننصحك بالتالي:
– قلل مدة وعمق الغوص.
– اصعد للسطح ببطء، وابقَ لوقتٍ كافٍ بين مرات الغوص.
-إياكَ أن تغوص وأنت مريض بالبرد أو الكحة، وبالطبع تجنب الكحول.
-احرص عند الغوص في مياه باردة.
-لا تصعد أي مرتفع كالجبال إلا بعد 24 ساعة على الأقل من الغوص.

 

المصدر

 

كتابة: ياسمين محمد

مراجعة: عبدالله طاهر

تصميم: أمنية عبدالفتاح

تحرير: إسراء وصفي

اظهر المزيد

ميار محمد

المدير التنفيذي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى