الأحياء

الحب من منظور بيولوجي

  • قصص الحب عبر التاريخ

كان شاه جهان يحب زوجته -ممتاز محل- كثيرًا، حتى أنه كان يهيم بها عشقًا، والدليل على ذلك أنه بعد وفاتها -إثر ولادة طفلهما الرابع عشر- حزن شاه جهان عليها كثيرًا، وتخليدًا لها بنى أحد أعظم عجائب الدنيا السبع تاج محل، حتى يدفنها فيه. ولما مرض شاه جهان، أطاح به ابنه البكر، وأمضى بقية حياته تحت الإقامة الجبرية، ودُفِن بجانب زوجته بعد موته.

تزوج نابليون من جوزفين وكانت حينها أرملة ومعها طفلين. لم تكن علاقتهما على وفاقٍ دائمًا، لدرجة أن نابليون ذهب في حملة عسكرية في إيطاليا بعد يومين فقط من زفافه بجوزفين تاركًا إياها في باريس، حيث أقامت علاقة مع الملازم هيبوليت تشارلز، عرف نابليون بخيانة جوزفين له فطلَّقها، وخصوصًا بعد تيقنه من أنها غير قادرة على إنجاب الأطفال، فكان يريد أن يكون له وريث، وبالفعل أنجب نابليون وريثه من ماري لويز النمساوية، ولكن الغريب في الأمر أنه بعد كل ما سبق، كانت كلمات نابليون الأخيرة هي: فرنسا، الجيش، قائد الجيش، جوزفين.

  • حتى أن الأساطير لم تسلم من قصص الحب

تحكي الأسطورة أن أبولو -إله الشمس عند اليونان- قد أهدى أورفيوس قيثارة بأوتارٍ سبعة (كوكبة القيثارة) وكان صوتُه وموسيقى قيثارته من العذوبة، بحيث كانت تتراقص بسببها الحيوانات والأشجار والأحجار، بل وتتوقف الأنهار عن الجريان من أجل أن تستمع إليه. تزوج أورفيوس من حورية الغابة أوريديوس بعد أن هام بها عشقًا، لكن ثعبانًا سامًا قتلها بينما كانت تقطف الأزهار لزوجها، فحزن أورفيوس كثيرًا وعزف على قيثارته، مما دعا الأشجار والصخور والحيوانات إلى البكاء. هنا حاول أورفيوس أن ينزل إلى العالم السفلي لكي يستعيد زوجته، مستخدمًا موسيقى قيثارته وصوته العذب درعًا ضد عالم الأموات، واستطاع بالفعل الولوج داخل هذا العالم حتى أن هادز -ملك العالم السفلي- حينما استمع إلى أغانيه وموسيقاه سمح له أن يأخذ زوجته إلى عالم البشر مرة أخرى بشرط واحد، وهو ألا ينظر أورفيوس خلفه إلى زوجته أثناء الرحلة حتى يصلا إلى عالم البشر على الأرض. لكن أورفيوس من فرحته لم يستطع فعل ذلك، فنظر خلفه قبل أن يخرجا من العالم السفلي، فعادت أوريديوس إلى عالَم الظلمات مرة أخرى.

لوحة توضح لحظة نظر أورفيوس لزوجته أثناء رحلتهما في العالم السفلي
  • أسطورة أخرى تحكي أن…

الحورية الفاتنة كاليستو أبهرت زيوس -أبُ الآلهة والبشر عند الإغريق- واتخذها خليلة له، وكان ينزل للقائها والتمشي معها في زيارات سرية خشية أن تعرف زوجته بالأمر، إلا أن هيرا -زوجة زيوس وأخته أيضًا- شكّت في الأمر ونزلت إليه في الغابة فجأة، فلاحظ زيوس قدومها فما كان منه إلا أن حوَّل كاليستو إلى دب بني كبير، وعندما جاءت هيرا وجدت زيوس ومعه الدب، وأصرت هيرا على الصعود ولم يستطع زيوس أن يبقى ليعيد كاليستو إلى طبيعتها، ثم جاء بعد ذلك ابن الحورية الصياد الماهر أركاس، باحثًا عن صيد ثمين فرأى الدب، فأطلق سهمًا أصاب قلب الدب فتحول الدب إلى كاليستو، وهنا بكى أركاس بكاءً عظيمًا صعد السماء، وخشي زيوس أن تسمع هيرا زوجته، وتمجيدًا لكاليستو حولها زيوس لِدُبٍ مرةٍ أخرى (كوكبة الدب الأكبر)، ورفعها للسماء وحول أركاس لِدُبٍ أيضًا (كوكبة الدب الأصغر) ورفعه للسماء، وكان أركاس موجه لِأُمِهِ حتى يراقبها ويرعاها للأبد.

صورة توضح كوكبتي الدب الأكبر والدب الأصغر في السماء

لقد شعرنا جميعًا بالحب في وقتٍ ما من حياتنا، يكتب الشعراء حوله ويغني عنه المغنون كما يذكره الأدباء في بعض أعمالهم، فيقول فيكتور هوجو في البؤساء: “ما الحب؟ قابلت في الشارع شابًا فقيرًا جدًا، كان واقعًا في الحب، قبعته قديمة، ويرتدي معطفًا باليًا، يمر الماء خلال حذائه وتمر النجوم خلال روحه”. إن علينا جميعًا أن نفهم تلك العاطفة المثيرة، هل هي عادة أتخذتها الكائنات الحية منذ زمن أم للبيولوجيا دور في تلك العاطفة؟

  • بعض مظاهر الحب لدى الحيوانات

1- طيور الفلامينجو

تشكل طيور الفلامينجو مجموعات منفصلة من الذكور والإناث، تتبختر وتتراقص معًا بحثًا عن زوج. ومع ذلك، فبدلًا من توجيه تقدمهم لفرد معين، يبدو أن المجموعات ترقص عمومًا لنداء المجموعات الأخرى ككل.

2- قرود البونبوس “bonobos”

بالإضافة إلى أنها تتزاوج مثل البشر، ولكنها أيضًا تحب العناق والتقبيل كتعبير منها على المودة، أضف إلى ذلك عادتهم في الاعتناء ببعضهم البعض.

3- طائر الماناكن “manakin”

تقوم ذكور هذا الطائر باستعراض مشية القمر لمايكل جاكسون moonwalk لكي تجذب النساء، تلك الحركة من الذكور تسحر الإناث بالفعل.

ما سبق جعلنا نتعلم أن عاطفة الحب ليست حِكرًا على البشر فقط، بل هي موجودة أيضًا في الحيوانات.

  • لماذا يهتم الباحثون في معرفة ماهية الحب؟

قد يقول بعض الناس أنها واحدة من أعظم المشاعر الإنسانية. ومع ذلك، على الرغم من كونه أحد أكثر السلوكيات المدروسة، إلا أنه لا يزال الأقل فهمًا، يناقش الباحثون باستمرار ما إذا كان الحب ظاهرة بيولوجية أم ظاهرة ثقافية.
إن الأبحاث المبكرة في طبيعة الحب وأسبابه قد أثارت انتقادات كبيرة، فخلال سبعينيات القرن الماضي، انتقد السناتور الأمريكي -ويليام بروكسمير- الباحثين الذين كانوا يدرسون الحب، وسخر من عملهم، حيث اعتبره مضيعة لأموال دافعي الضرائب.
ومع ذلك، كشفت الأبحاث عن أهمية الحب في نمو الطفل وصحة البالغين.

  • هل الحب ظاهرة بيولوجية أم ثقافية؟

يميل العلماء الذين يحملون وجهات نظر بيولوجية عن الحب إلى اعتباره دافعًا إنسانيًا، وفي حين أن الحب غالبًا ما يُنظر إليه على أنه أحد المشاعر الإنسانية الأساسية مثل الغضب أو السعادة، فقد أشار بعض الباحثين إلى أن الحب هو -بدلًا من ذلك- ظاهرة ثقافية تنشأ جزئيًا بسبب الضغوط والتوقعات الاجتماعية.

الآن، نحن أمام خيارين، إما أن الحب عبارة عن شيء للبيولوجيا دورٌ فيه، أو هو -ببساطة- ظاهرة ثقافية، هنا دعونا نلجأ للمنطق في التفكير، إذا كان الحب اختراعًا ثقافيًا بحتًا، فمن المنطقي أن الحب لن يكون موجودًا في بعض الثقافات. ومع ذلك، تشير البحوث الأنثروبولوجية -الأنثروبولوجيا هو علم الإنسان، وهو العلم الذي يهتم بدراسة البشر وسلوك الإنسان والمجتمعات الماضية والحاضرة- إلى أن الحب هو عاطفة عالمية، فعلى سبيل المثال، درست هيلين فيشر -عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية- 166 مجتمع، تحاول البحث عن الحب الرومانسي فيهم، وجدت أدلة على الحب الرومانسي في 147 مجتمع فقط، أو ما يقرب من 90% من الزمن.
تشير هذه الدراسة، إلى جانب عدد لا يُحصى من الدراسات الأخرى، إلى وجود عنصر بيولوجي للحب، هناك جزء من الطبيعة البشرية يبحث عن الحب ويجده. وبالمثل، نظرًا لأن فيشر لم تتمكن من تحديد الحب الرومانسي في كل مجتمع درسته، فإن هذا يشير إلى وجود تأثير ثقافي على الحب أيضًا.

  • الحب عند علماء النفس

كان لعلماء النفس دورًا أيضًا في محاولات فِهم تلك العاطفة المثيرة، فاقترح الباحثون عددًا من النظريات المختلفة لفهم طبيعة الحب، وقد حاول الكثيرون ابتكار طرق لقياس هذه المشاعر، ولقد كان عالِم النفس الاجتماعي زيك روبن من أوائل الباحثين الذين قاموا بتطوير أداة مصممة لقياس الحب تجريبيًا، اعتقد روبن أننا في بعض الأحيان نشعر بقدر كبير من الحب والإعجاب بالآخرين، نحن نستمتع بقضاء بعض الوقت معهم ونريد أن نكون حولهم، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أننا نحبهم بالمعنى الحرفي للحب، فبدلًا من ذلك أشار روبن إلى أننا قد نكون معجبين بهم فقط.

إن الحب من ناحية أخرى، أعمق بكثير، وأكثر كثافة، ويتضمن رغبة قوية في العلاقة الحميمة الجسدية والاتصال.
يستمتع الأشخاص -الذين يعجبون بعضهم- بصحبة بعضهم البعض، بينما يهتم “المُحِبون” باحتياجات الشخص الآخر بقدر اهتمامهم باحتياجاتهم الخاصة، ذلك هو مقياس روبن للإعجاب والمحبة.
وسبب تسميته بهذا الاسم؛ أنه يُفرق بين الأشخاص الذين يحبون بعضهم البعض والأصدقاء العاديون.

ووفقًا لروبن، يتكون الحب الرومانسي من ثلاثة عناصر:

1- الارتباط: الحاجة إلى أن تكون مع شخص آخر وتعتني به، ومن العناصر المهمة له الاتصال الجسدي المرغوب منه والموافقة بين كلا الطرفين.

2- الرعاية: أن تهتم بسعادة الشخص الآخر وباحتياجاته بنفس قدر احتياجاتك.

3- الأُلفة: أن تُشارك أفكارك ومشاعرك ورغباتك الخاصة مع الشخص الآخر.

بناءً على رأي روبن في الحب الرومانسي، ابتكر استبيانين لتقييم مواقف معينة تجاه الآخرين عن طريق قياس المتغيرات الثلاث السابقة، ووجد أن مقاييس الإعجاب والمحبة هذه قدمت دعمًا لمفهومه للحب.

في البداية، حدد روبن حوالي 80 سؤالًا يهدف إلى تقييم المواقف التي يحملها الشخص تجاه الآخرين.
تم فرز الأسئلة وفقًا لما إذا كانت تعكس مشاعر الإعجاب أو المحبة. كانت تُدار هاتان المجموعتان من الأسئلة لأول مرة على 198 طالبًا جامعيًا، سمحت النتائج لروبن بتحديد 13 سؤالًا يختصوا بالإعجاب و13 سؤالًا يختصوا بالمحبة، والتي كانت مقاييس موثوق بها لهذين المتغيرين.
كما أضاف في بحثه عددًا من الخصائص التي ميزت بين درجاتٍ مختلفة من الحب الرومانسي، فعلى سبيل المثال، وجد أن المشاركين الذين حصلوا على درجاتٍ عالية على مقياس الحب أمضوا وقتًا كبيرًا في النظر إلى عيون بعضهم البعض مقارنةً بأولئك الذين حصلوا على درجاتٍ منخفضة في مقياس الحب.

مقياس روبن للإعجاب والمحبة

إنَّ بحث روبن يُمثل خطوة مهمة إلى الأمام في فهمنا للحب الرومانسي، ومهّد الطريق للبحوث المستقبلية حول هذا الموضوع الرائع.

  • نشاط الدماغ عند الحب:

عندما يكون الحبيب موجود بجانبنا أو حتى نفكر فيه، عندها يتم تنشيط العديد من مناطق الدماغ، وخاصةً تلك التي ترتبط بالدافع والتحفيز، وتشمل هذه المناطق قرن آمون hippocampus، ما تحت المهاد hypothalamus، والقشرة الحزامية الأمامية anterior cingulated cortex، قد يؤدي تنشيط هذه المناطق إلى تثبيط السلوك الدفاعي وتقليل القلق وزيادة الثقة في الحبيب.

صورة توضح منطقة القشرة الحزامية المتوسطة (باللون البنفسجي)
صورة توضح منطقة قرن آمون، وما تحت المهاد، واللوزة الدماغية، ووظائفهم

بالإضافة إلى ذلك، يتم إلغاء تنشيط مناطق مثل اللوزة الدماغية amygdala -تلك التي ذكرناها بمزيد من التفاصيل في مقالٍ سابقٍ بعنوان “الكذب من منظور بيولوجي”- والقشرة الأمامية frontal cortex استجابة للحب الرومانسي، مما يعمل على تقليل احتمالية المشاعر السلبية أو الحكم على الحبيب.

صورة توضح القشرة الأمامية للدماغ
  • كل شيء في الهرمونات

يبدأ الأمر كله من منطقة ما تحت المهاد hypothalamus، حيث تنتج تلك المنطقة هرمونين هما الأوكسيتوسين Oxytocin والفاسوبريسين vasopressin -يُعتبران أكثر الهرمونات ارتباطًا بالحب الرومانسي- وبعد أن يتم انتاجهما من تلك المنطقة، تطلقهما الغدة النخامية pituitary gland، وبينما يتأثر كلًا من الرجال والنساء بالأوكسيتوسين والفاسوبريسين، فإن النساء أكثر حساسية للأوكسيتوسين والرجال أكثر حساسية للفاسوبريسين.
وخلال المراحل الشديدة من الحب الرومانسي، تزداد تركيزات كلًا منهما.
كما يُحفزان إطلاق الدوبامين Dopamine (هرمون السعادة) من نفس المنطقة -ما تحت المهاد- والذي يعزز بدوره إطلاق هرمون التستوستيرون عند الرجال. إن الدوبامين يؤثر على مختلف الأعضاء، بما في ذلك الأعضاء التناسلية والغدد العرقية وكذلك الحواس، لذلك لا تستغرب عندما تكون في المراحل الأولى من الوقوع في الحب، هل تتعرق أكثر؟ هل تشعر أن السماء تبدو زرقاء وصافية؟ إنه الدوبامين، هو مسؤولٌ -جزئيًا- عن تلك الأحاسيس.
ونتيجة لإطلاق الدوبامين، تتأثر الحالة المزاجية والعواطف أيضًا، مما يؤدي إلى الشعور بالإثارة والسعادة، وفي الوقت نفسه يزيد هرمون التستوستيرون من الرغبة الجنسية، ولكنه يزيد أيضًا من السلوك العدواني، وقد يدفع الشخص إلى متابعة حبيبته التي تسبب له تلك الأثارة فيضايقها بتصرفاته.

نأتي بعد ذلك إلى دور الناقلات العصبية -نورأدرينالين norepinephrine- والهرمون فينيل إيثيل أمين PEA، في تركيز الانتباه. يبدأ الأفراد في التركيز على الشخص الذي يحبونه ويرغبون فيه، وفي الوقت نفسه، غالبًا ما يكون لديهم شعور بالنشوة.
إن النورأدرينالين هرمون مُنَشِّط، لذلك يتسبب أيضًا في شعور الأفراد باليقظة وعدم القدرة على النوم وجعلهم يتمكنون من ملاحظة وتذكر حتى أصغر التفاصيل عن شركائهم.
ولكن إذا لم تستمر العلاقة -علاقة الحب- فإن مستويات PEA تنخفض وتكون مسؤولة -جزئيًا- عن مشاعر الاكتئاب التي يمكن أن تواجهها.

لذلك في المرة التالية عندما تسمع صديقك يقول أن رائحة الهواء الطلق تُنعِش أكثر من المعتاد، أو تلاحظ أنه يبتسم عندما يراقب شخص يُواعد، ويستمتع بالعرض، فاعلم أنه -ربما- واقع في الحب.

المصادر 1 2 3 4 5 6 7 

كتابة: مصطفى احمد مصطفى

تحرير: شيماء ربيع

تصميم: شروق احمد

اظهر المزيد

مصطفى أحمد مصطفى

مسئول قسم الأحياء والكيمياء

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى