الأحياء

قصة الفيتامينات

ليس هناك أسوأ من أن تنضب أفكارك فجأةً!
اجلس أمام مكتبي المتواضع، القلم بجوار صفحة بيضاء ناصعة، الإضاءة ممتازة، بجانبي كتبي التي سأحتاجها وأنا أكتب.
ثم ماذا؟
لا شيء! لا أعرف عن ماذا سأتحدث، وكل ما سأتحدث عنه يعتبر مضيعة للوقت وسط إحصائيات الإصابات والوفيات الجديدة، لكنني سأحاول على كل حال؛ فالحياة ستستمر عاجلًا أم آجلًا.

غير أنني في هذه اللحظات المربكة العصيبة التي أمر بها، لأن هناك أجلٌ مُسمى لتسليم هذا المقال، جاءتني رسالة نصها “هل لديكم هذه الفيتامينات في الصيدلية؟”
ومن هنا وجدتني أقول كأرخميدس عندما اكتشف قانون الطفو: “وجدتها، وجدتها!”
لذلك أنا أشكرك أيتها الرسالة، لقد اكتشفت توًا أنني لم أكتب بعد أي مقالة عن الفيتامينات!

تاريخ موجز

كان اكتشاف الفيتامينات إنجازًا علميًا كبيرًا في فهمنا للصحة والمرض؛ ففي الوقت الذي سادت فيه نظرية أن الأمراض كلها ناشئة إما عن عدوى أو عن سموم -وهي النظرية التي ساهم فيها لويس باستير “Louis paster” وروبرت كوخ “Robert koch” وغيرهم- تعذّر فهمنا لكثيرٍ من الأمراض، بل أقول أننا قد أخطأنا فهم هذه الأمراض، كالإسقربوط (scurvy) أو البيري بيري (Beriberi) مثلًا واعتقادنا أن السبب هو الجراثيم.

كريستيان أيكمان “Christiaan Eijkman” عالم هولندي، ذو شعر مجعد وشارب طويل، لاحظ ظهور أعراض على بعض الدجاج يشبه أعراض البيري بيري الذي يصيب الجهاز العصبي والهضمي، عندما كانت تتغذى على أرز مقشور، فاعتقد أن هناك مادة سامة في النشا الذي يحويه الأرز المقشور، وأن القشرة بها مادة أخرى مضادة لهذا السم، لكن زميلًا له يُدعى جرييت جريجنز “Gerrit Grijns” أثبت خطأ اعتقاد أيكمان ونشر التفسير الصحيح لما توصّل إليه، وهو أن تناول الأرز المقشور يؤدي إلى الإصابة بالبيري بيري، لا لأنه يحتوي على سم وبدون القشرة نكون قد فقدنا مضاد السم، بل لأنه لا يحتوي على مقدار ضئيل جدًا من عنصر غذائي معين، ورغم ذلك بحث جرييت تم تجاهله، لأنه نُشر بالهولندية!

السير فريدريك غولند هوبكنز “Frederick Gowland Hopkins” عالم كيمياء حيوية بريطاني، حاد الملامح، لديه شارب أيضًا لكن شعره ليس مجعدًا هذه المرة. جاء على ذكر نظرية الفيتامينات في خطابه الذي ألقاه في مدينة لندن، يقول هوبكنز: “لا يمكن لأي حيوان أن يعيش على مزيجٍ من البروتين والدهون والكربوهيدرات فقط”، وتابع قائلًا: “إن أمراضًا كالإسقربوط والكساح هي أمراضٌ قاسية لدرجة لا يمكننا أن نغض الطرف عنها؛ فهي تجبرنا دائمًا على النظر في ماهيتها، وهذه الأمراض وغيرها تنشأ في الأصل من خلل في النظام الغذائي”.

وقد نشر هوبكنز نتائجه التي توصل إليها في 1912 أن الفئران عند إطعامها وجبات جيدة من البروتين، والنشا، وقصب السكر، والمعادن لم تنمُ بشكل جيد، ولكنه عندما أضاف كمية صغيرة من اللبن للوجبة، نمت الفئران بشكلٍ جيد وطبيعي!
فاقترح هوبكز أن اللبن يحتوي على جزئيات صغيرة الحجم جدًا، وسمّاها العوامل الغذائية المساعدة “Accessory factors”، وقد أثبت أيضًا أن مرض الكساح من الأمراض الناتجة عن نقص عوامل غذائية ضرورية، وقد نال كلًا من هوبكنز وأيكمان جائزة نوبل للطب مناصفةً عام 1929.
غير أن أيكمان مع الأسف لم يتمكن من الذهاب إلى ستوكهولم لمرضه الشديد، وتُوفي في العام التالي.

وأنا أتعلم أكثر عن تاريخ الفيتامينات المشوق، ظهر أمامي على الشاشة كازيمير فانك “Casimir Funk”، عالم كيمياء حيوية من أصلٍ بولندي، يشبه ممثلي هوليوود؛ فهو جميل الشكل، وليس لديه شارب بالطبع.
يرجع الفضل في تسمية الفيتامينات إلى كازيمير؛ فقد استبدل مصطلح “العوامل الغذائية المساعدة” لهوبكنز بڤايتال أمينات (Vital amine) ،(Vital) وهي تعني حيوي أو ضروري، و(amine) لاعتقاده أن هذه الجزئيات تحتوي في تركيبها على أمينات، وقد ضُمت الكلمتين لبعضهما بعد ذلك بفترة لتصبح Vitamins أو ڤيتامينات.

كما ترى عزيزي القارئ، هذا يعتبر تاريخًا موجزًا وقد تعمدت أن أكتبه كذلك؛ كي لا تمل مني أو لعلك مللت، لا أدري، المهم كما ترى أن قصة اكتشاف الفيتامينات لم تكن كقصة سير ألكسندر فليمنج واكتشاف البنسلين مثلًا، لا في الواقع كان بطيئًا، والتقدم كان تدريجيًا، بل إن القصة كانت مليئة بالتناقضات، ودحض أدلة وإثبات أخرى، وبعض النجاحات، وبعض النكسات أيضًا، على كل حال هذه طبيعة العلم والاكتشاف.

ومازال العلماء حتى الآن يحاولون سبر أغوار الفيتامينات، وما زالت حتى الآن تبهرنا بأهميتها، وضرورة توافرها، وخطورة نقصها، بالرغم من أننا نحتاجها بكميات ضئيلة جدًا!

المصدر

كتابة: عبدالرحمن احمد

مراجعة: نرمين خالد

تحرير: هاجر هشام

تصميم: شروق احمد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى