محاكمة القرد (نظرية التطور في موضع الاتهام)!
أصل الحكاية
بدأت القصة كلها عندما زار عالم الطبيعة “تشارلز داروين” جزر غالاباغوس عام ١٨٣١. وأثناء رحلته تلك، والتي استغرقت ٥ سنوات، وجد داروين نفسه محاطًا بعدد كبير من العصافير التي شدت انتباهه، فجمع عينات منها وبدأ في دراستها. لاحظ داروين وجود بعض التشابه والاختلاف بينها؛ فبعضها مثلًا كان يمتلك مناقير صغيرة وحادة، وطيور أخرى تمتلك مناقير أكبر، أيضًا وجد أن بعضها يتغذى على البذور، والبعض الآخر يتغذى على الفواكه. كل تلك الأمور جعلت داروين يتدبر ويتساءل عن أصل تلك الكائنات. أعتقد أن تلك اللحظة كانت أهم لحظة في حياة داروين، مع العلم أنه في تلك الرحلة كان بعمر ٢٦ سنة فقط!
وفعلًا، بعد عدة سنوات من عودته من تلك الرحلة، وبالتحديد في عام ١٨٥٩، نشر داروين كتابه الأشهر “أصل الأنواع”، ذلك الكتاب الذي تحدث فيه داروين ولأول مرة عن نظريته المثيرة -نظرية التطور- حيث افترض أن جميع الكائنات الحية تطورت من أصل واحد، ولكن بمراحل متفاوتة تزداد تعقيدًا بمرور الوقت. وبسبب هذا الكتاب، تلقى داروين أمواجًا من الانتقاضات والسخرية، وكان أكثر من يلقون تلك الأمواج هم المتدينون. وهنا، يقودنا الأمر إلى “النقاش الكبير”.
“النقاش الكبير”
بعد مرور عام تقريبًا من نشر داروين لكتابه “أصل الأنواع”، أي في سنة ١٨٦٠، استضاف متحف التاريخ الطبيعي بجامعة أكسفورد حدثًا عُرِف ب”النقاش الكبير”. كان عبارة عن مناظرة بين من هم معارضون لداروين ومن هم مؤيدون له. ولكن، كان هناك نجمان لتلك المناظرة: الأول هو “توماس هكسلي”، عالم الأحياء البريطاني وصديق داروين الذي يؤمن به وبنظريته -وبالمناسبة، كان داروين مريضًا بشدة في ذلك الوقت ولم يستطع حضور تلك المناظرة-، والثاني هو “صامويل ويلبرفورس” أسقف أكسفورد، وكان يمثل وجهة نظر الدين الرافضة للتطور.
كان هناك المئات من الناس شاهدين على ذلك الحدث، وكان النقاش حادًا لدرجة أن الأسقف صامويل سخر حتى من احتمال أن يكون هكسلي حفيدًا للقردة، فرد عليه هكسلي بأنه يُفَضِّل أن يكون حفيدًا لهم على أن يكون شخصًا غير متقبل لطبيعته.
ولم يحسم هذا الجدال تلك المسألة، بل أثار فضول العديد من الناس، فبدأت المناقشات بينهم، وخصوصًا في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن كل تلك المناقشات والاختلافات كانت نابعة عن حرية الشخص في التعبير عن رأيه في ظاهرة جديدة ظهرت للعلن، ألا وهي “نظرية التطور”، سواء أكان مؤيدًا أو معارضًا لها. ونتيجة لذلك، كان المعلمون في المدارس يُدَرِّسون إلى تلاميذهم حسب مُعتقداتهم الشخصية؛ فالذي يؤمن بنظرية داروين كان يدرسها لتلاميذه، والذي لا يؤمن بها لم يكن يفعل، لأنه في ذلك الوقت لم يكن هناك قانون يحكم جميع المدارس بتدريس منهج واحد. لكن كل ذلك اختفى مع ظهور “قانون باتلر”.
“قانون باتلر”
كان المدعو “جون باتلر” عضوًا في البرلمان الأمريكي عندما تم تكليفه بمراقبة أداء المدارس الحكومية. وجد باتلر أن بعض المدارس كانت تدرس نظرية داروين، وبهذا، قرر أن يكتب مشروع قانون جديد سُمِّيَ ب”قانون باتلر”، وقد تم إقراره في عام ١٩٢٥ في ولاية تينيسي الأمريكية. نَصَّ القانون على عدم تعليم التلاميذ أي نظرية تخالف قصة الخلق الإلهي للإنسان كما ذُكِر في الإنجيل، وبالطبع شمل هذا القانون نظرية التطور.
حسنًا، نحن الآن أمام نظريتين: نظرية التطور، ونظرية الخلق التي تفسر الخلق من منظور ديني.
نظرية الخلق مقابل نظرية التطور
ببساطة شديدة، تقوم نظرية الخلق على أساس واحد وهو أن الحياة كلها، بكائناتها وطبيعتها وأنظمتها المعقدة، قد أوجدها الخالق. بينما الأساس الذي تقوم عليه نظرية التطور هو عملية “الانتخاب الطبيعي”، وهي عملية تحافظ على استمرارية كائنات معينة في الحياة نتيجة تحلي تلك الكائنات بصفات معينة، وفي نفس الوقت تقضي على كائنات آخرى نتيجة افتقارها إلي تلك الصفات.
ولتبسيط الأمر، نضرب ذلك المثال: لو كان عندنا حقل واسع مليء بالأشجار وكلها من نفس النوع، ولكنها بالتأكيد مختلفة في صفات صغيرة بسبب الاختلاف في الحمض النووي (DNA) الخاص بكل شجرة. والآن، فلنتخيل أن هذا الحقل تعرض لدرجة حرارة عالية، لو نظرنا إلى الأشجار سنجد أن بعضها قد ماتت قبل حتى أن تنضج بذورها، وسنجد أن الأشجار الأخرى قاومت تلك الموجة، والسبب في هذه المقاومة هي تلك الاختلافات الصغيرة في الحمض النووي، لذلك صمدت تلك الأشجار أمام الحرارة العالية. وليس هذا فحسب، بل استطاعت أن تنتج بذورًا ناضجة تحتوي على جينات تقاوم تلك الحرارة أيضًا. ومع تعاقب الأجيال، أصبح الحقل كله عبارة عن أشجار مقاومة لدرجات الحرارة العالية، هذا هو “الانتخاب الطبيعي”.
لكن انتبه، الانتخاب الطبيعي لا يشمل النباتات فقط، ولكنه يشمل جميع الكائنات الحية: من أول الفيروسات والبكتيريا، مرورًا بحقيقيات النواة والنباتات، وصولًا للحيوانات الأكثر تعقيدًا، حتى نحن البشر؛ فعلى سبيل المثال، فيروس الإنفلونزا يتطور كل سنة بشكل يجعله مقاومًا للَّقاح الخاص به، مما يدفع العلماء لإنتاج لقاح جديد له كل سنة لحماية البشر من الإصابة المتكررة به.
وبسبب فكرة الانتخاب الطبيعي، أسرع الكثيرون لمحاربة نظرية التطور. وبالتالي، الدفاع عن قانون باتلر، لأنهم مؤمنون بأن الخلق أكثر تنظيمًا وترتيبًا من أن يسير بتلك الطريقة العشوائية؛ ذلك أن الانتخاب الطبيعي يعتمد في الأساس على البيئة، والبيئة متغيرة دومًا. وكما ذكرت سابقًا، بينما كان هناك مؤيدون لقانون باتلر، كان هناك معارضون له أيضًا مثل “جون سكوبس”، أستاذ العلوم في مدرسة ثانوية محلية في ولاية تينيسي، والذي رُفِعَت ضده قضية لانتهاكه ذلك القانون، وهذه هي “محاكمة القرد”.
“محاكمة القرد”
في تلك المحاكمة، لم يكن القرد في قفص الاتهام، بل كانت نظرية التطور، والتي ربطت أصل الانسان بالقرود. على الرغم من قانون باتلر الذي جرَّم تدريس نظرية التطور، آمن سكوبس بها ودرَّسَها أيضًا لتلاميذه منتهكًا القانون بهذا، مما أدي إلى رَفْعِ “ويليام براين” -والذي كان مرشحًا سابقًا لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية- قضية على سكوبس بحجة مخالفة القانون، كان ذلك في العاشر من تموز (يوليو) لعام ١٩٢٥.
كانت تلك المحاكمة مسار اهتمام الكثير والكثير من الناس في ولاية تينيسي؛ فقد وصل عدد الحاضرين إلى أكثر من ٥٠٠٠ شخص، مما دفع المسئولين إلى نقل المحاكمة للخارج في الهواء الطلق؛ خوفًا من عدم صمود أرضية المكان وانهياره. دعونا الآن ننتقل لأجواء المحكمة، تولى “كلارينس دارو” -محامي المتهم سكوبس- الدفاع عن موكِّله ضد ويليام براين، الذي رأي أن نظرية التطور تمثل تهديدًا صريحًا لتعاليم الديانة المسيحية. كلٌ منهما دافع عن رأيه، لكن القاضي حكم بدستورية القانون، وتغريم سكوبس مبلغ ١٠٠ دولار.
ظل الأمر على حاله لمدة ٤٢ عامًا، إلى أن أُجلِس مُعلم آخر مكان سكوبس. “غاري سكوت”، أستاذ في إحدى المدارس الثانوية في ولاية تينيسي، وجد نفسه مطرودًا من مدرسته بسبب مخالفته لقانون باتلر بتدريسه لمادة التطور. قَدَّمَ سكوت طعنًا في ذلك القانون عام ١٩٦٧. ولحسن حظه، وافقت المحكمة على إلغاء قانون باتلر. وبمجرد توقيع المحكمة على قانون الإلغاء، قامت بعض الولايات الأخرى، والتي كانت تطبق نفس الحظر على نظرية التطور، بإلغاء القانون أيضًا.
تدريس نظريتي الخلق والتطور معًا
بعد إلغاء قانون باتلر، عادت نظرية التطور إلى التدريس مرة أخرى في المدارس، ولكن الأمر لم ينتهي عند ذلك؛ فقد حاول البعض تبني النظريتين معًا كأنهما مكملتان لبعضهما البعض. وهنا، ظهر قانون تم إقراره عام ١٩٨١ يمنع تدريس نظرية منهما دون الأخرى، فمثلًا: عندما يشرح الأستاذ نظرية التطور، فهو مُجبر على شرح نظرية الخلق معها، والعكس صحيح بالطبع. هذا الوضع لم يُعجب الجميع. وهنا، أتى دور المعلم “دون أجيليرت” الذي رفع دعوة قضائية ضد هذا القانون، فقضت المحكمة بأحقية إلغاء هذا القانون. ومنذ ذلك الحين، لم يعد المعلمون مجبرين على تدريس النظريتين معًا.
بداية ظهور “نظرية التصميم الذكي”
لم ييأس هؤلاء الذين يؤمنون بنظرية الخلق، حتى بعد فشلهم في تدريسها مع نظرية التطور كما شرحنا سابقًا، مما دفعهم إلى الإعلان عن نظرية جديدة تضم وجهتي النظر، ولكن مع اسم جديد وهو: “نظرية التصميم الذكي”. تلك النظرية صنعتها جماعات من الديانة المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية، وتشير إلى أن الكائنات الحية المختلفة والطبيعة بما فيها من أنظمة معقدة قد خلقهم وبرمجهم مصمم ذكي. وكانت تلك النظرية محسوبة على نظرية الخلق؛ فكانت تشبهها -بدرجة كبيرة- في أن هناك خالق أوجد كل شيء. ولكن لحظهم السيئ -أو كما يقول المتنبي في إحدى قصائده: “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”- تم رفع دعوى قضائية عام ٢٠٠٥ ضدها، وخسرت نظرية التصميم الذكي أمام نظرية التطور.
بدأت قصة تلك الدعوى عندما ألزمت مدرسة “دوفر” -في ولاية بنسلفانيا- معلمي مادة العلوم بإلقاء بيان يشرح للتلاميذ نظرية التصميم الذكي بأنها بديلة عن نظرية التطور، ووصل الأمر إلى أولياء أمور بعض التلاميذ -والذين كانوا يؤمنون بنظرية التطور- فاعترضوا على ذلك، ورفعوا دعوى قضائية ضد المدرسة. كان محور الدعوى كلها هو الإسناد العلمي لنظرية التصميم الذكي، فأهالي التلاميذ يقولون أن تلك النظرية تشبه نظرية الخلق، بل إنها كصورة المرآة لها ولا يوجد لها أي إسناد علمي، في حين أن المدرسة دافعت عن نفسها مُصرحة بأن النظرية لها إسناد علمي. وانتهت القضية بتصريح القاضي بأن نظرية التصميم الذكي تندرج تحت الدين وليس العلم.
التحول الكبير في موقف أصحاب الدين المسيحي
تاريخ التناقضات والصراعات التي مرت على نظرية التطور سابقًا وضح شيئًا واحدًا فقط، وهو أن الدين كان ضد تلك النظرية. ولكن الأمر اختلف في عام ٢٠٠٨، حيث احتفل الفاتيكان بمرور ١٥٠ عامًا على نظرية التطور. وفي عام ٢٠١٤، بلغ هذا التحول أشده عندما أعلن البابا فرانسيس -بابا الفاتيكان، خلال اجتماعه في الأكاديمية البابوية للعلوم- أن الدين يتماشي مع نظريتي التطور والانفجار العظيم، على الرغم من أنه في خطاباته السابقة كان يتحاشى فكرة تطور الانسان من القرود.
الخاتمة
كل ذلك الجدل السابق، من تأييد ورفع دعاوى قضائية، لم يكن مجرد صدام بين نظريات فحسب، ولكنه -بالأحرى- عجز عن التوفيق بين العلم والدين. من وجهة نظري، لا يمكن للدين والعلم أن يختلفا؛ فالذي وضع الدين وضع أيضًا العلم، ولكن الاختلاف فقط في كيفية فهمنا لقوانين الطبيعة. ولذلك، عندما تقابلنا نظرية تنافي مشاهداتها وملاحظاتها الدين، يجب علينا أولًا التأكد من تفسير تلك المشاهدات والملاحظات العلمية؛ فمن يفسرونها بشر، والبشر ليسوا معصومين من الخطأ. وإذا تأكدنا من التفسير، نرجع بعد ذلك للدين ونري التفسير فيه لتلك الظاهرة؛ فالذين فسروا الدين هم أيضًا بشر.