الأحياء

الكذب من منظور بيولوجي

  • أشهر الأكاذيب عبر التاريخ

هروب هيلين زوجة الملك الإسبارطي مع باريس أمير طروادة، تسبب في قيام حرب طرودة الشهيرة بين البلدين، ولكن بسبب تميز مدينة طروادة بأسوارها العالية، كان الدخول إليها أمرًا مستحيلًا، مما جعل الإسبارطيون يدَّعون إصابتهم بالطاعون وأنهم سيتركون الحرب، ولكن بدلًا من ذلك بنوا حصانًا خشبيًا ليختبئوا فيه، وحين اصطحب الطرواديون الحصان إلى داخل المدينة، شن الإسبارطيون هجومهم المخادع.

اكتشف عالِم الآثار تشارلز دوسون جمجمة غريبة الشكل عام 1910، وتم الزعم بأنها ناتجة عن تطور بشري، واتضح بعد عدة سنوات بأن الجمجمة عمرها 600 عام فقط، وأنه تم التلاعب بالفك ليبدو أنه تطور بشري، وكان يُعتقد بأن متدربًا بأحد المتاحف قد قام بهذا.

جورج بوش الابن الرئيس الأمريكي السابق ادّعي وجود أسلحة دمار شامل بحوزة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وشنت أمريكا الحرب على العراق بهذه الحجة -الكذبة-؛ ليعيش الناس آثار هذه الكذبة حتى يومنا هذا.

كل ما سبق حكيه، ما هو إلا بضعة من أشهر الأكاذيب في التاريخ، تلك الآفة الأخلاقية التي تنتشر فينا جميعًا بلا استثناء، هي النية لخداع الآخرين من أجل الوصول إلى فائدة مرجوة.

إن نصف الأكاذيب التي يرويها البشر ما هي إلا للحصول على شيء ما مفيد بالنسبة لهم، من خلال التظاهر بأنهم أكثر ودية أو من خلال غيرها من المظاهر، فعلى سبيل المثال، يمكن للناس التظاهر بالملل أو بالإطراء، يمكنهم أيضًا إغواء الجنس الآخر، إذا لعبوا أوراقهم بشكل صحيح، فإن هذا السلوك يزيد من فرصهم للتكاثر.

على الرغم من طبيعته الإجتماعية المحظورة، فإنه موجود في جميع الثقافات وعلى امتداد تاريخ البشرية، من حصان طروادة للإغريق إلى ذلك الطالب الذي كذب عندما تم الإمساك به وهو يغش في الامتحان مُرددًا: “أنا لم أكن أغش.. أنا لم أكن أغش”.

لماذا نكذب؟ لماذا يُخيل لنا أن تقديم تحريف مستمر للواقع أمر مفيد؟

في صميمنا نعلم جميعًا لماذا نكذب! لإخفاء الحقيقة وتقديم سيناريو بديل نعتقد أنه أفضل نوعًا ما. أعتقد أنك إذا فكرت في الأمر، فسوف تدرك أنك ربما فعلت ذلك بالفعل اليوم. “لقد ذاكرت اليوم أكثر من 50 صفحة!”.. كلانا يعرف أنها كانت صفحتان فقط. ولكن كيف ولماذا تطور هذا الاعتقاد، لماذا يُخيل لنا أن تقديم تحريف مستمر للواقع أمر مفيد؟

تم إجراء الكثير من الأبحاث حول الظروف المحيطة بنا محاولين الإجابة على السؤال التالي: لماذا يكذب الناس؟ وإلى أي مدى يمكنهم التمادي في كذبهم؟

إنه حقًا مجال غير متجانس ورائع من السببية، حيث يرتبط الميل إلى الكذب بعدة أسباب كالجنس والثقافة والعمر وحتى علم الوراثة.

فمثلًا يقل احتمال أن تكذب النساء أكثر من الرجال إذا كانت الكذبة باهظة التكلفة لشخص آخر، وغالبًا ما يكذبن بشكل غير طبيعي. هم أيضًا أقل عُرضة للكذب من الرجال لتحقيق مكاسب اقتصادية أصغر، لكنهم يكذبون بقدر ما يتعلق الأمر بالربح الكبير. ومع ذلك، وبغض النظر عن الجنس، كلما تعاملت مع شخص مقرب إليك، تقل احتمالية كذبك عليه بشكل عام، حتى ولو كان لتحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة.

الكذب ما هو إلا واحد من السلوكيات العديدة للخداع، والتي هي شائعة للغاية في جميع أنحاء العالم الطبيعي. تشمل أربعة مستويات من الخداع متزايد التعقيد ما يلي:

١- بعض العث لها أجنحة تشبه عيون البوم عندما يتم فتحها، تُعتبر هذه العيون علامات مموهة أو كاذبة.

٢- بعض الطيور تتظاهر بالإصابة لجذب الانتباه عندما يكون المفترس حول صغارها، ويعتبر هذا أسلوب من أساليب الخداع والكذب.

٣- التصرف بطريقة معينة، بعد معرفة أن هذا التصرف سوف يثير ردود معينة، فقد يخترع الكلب أنه مصاب حتى يستدعي ردودًا إنسانية متعاطفة.

٤- محاولات واعية للتلاعب بمعتقدات وأفعال الآخرين، الشمبانزي والبابون يفعلون ذلك بمستوى بسيط، وبالطبع يفعل ذلك البشر في مستويات أكثر تعقيدًا وتعقيدًا.

إن القيام بالكذب يتطلب وظائف معرفية معقدة إلى حد ما لا يملكها إلا البشر وبعض الرئيسيات أيضًا. لو فكرنا في الأمر من ناحية بيولوجية سنجد أن هذا منطقي، فنرى أن زيادة القدرات على فهم العالم ومعالجته تتطلب زيادة في المعالجة العصبية وذلك حتي تقص قصة كاذبة، وتحصل على مساحة معرفية لتخزين ذاكرة لتلك القصة الكاذبة، وما إلى ذلك، وبالتالي يمكن العثور عليها في الكائنات الحية التي لديها القدرة على هذه. في الواقع، توضح البيانات الحديثة أن تتابع الخداع والكذب يرتبط ارتباطًا مباشرًا بحجم القشرة المخية الحديثة “neocortex” -وهو قسم تم تطويره مؤخرًا من دماغ الثدييات والذي يعالج، من بين أمور أخرى، الفكر الواعي واللغة والمنطق.

صورة توضح مكان القشرة المخية الحديثة “Neocortex”
  • رأى العلماء والباحثون في أصل الكذب وتطوره

كان لبعض العلماء والباحثين رأىُ في أصل الكذب وتطوره، فقد أشار عالم الأحياء التطوري روبرت تريفرز إلى أن سلوك الكذب ما هو إلا سمة تطورية موروثة، وليس مجرد سلوك مكتسب.

كما جادل بعض الباحثين بأن الإنكار وخداع الذات تطورت بالضرورة بالنسبة لنا لكي نواجه تعقيدات العالم.

  • لماذا لا نستطيع التوقف عن الكذب بعد الكذبة الأولى؟ بصورة أخرى، لماذا تؤدي الأكاذيب الصغيرة دائمًا إلى أكاذيب أكبر؟

هذا السؤال السابق يجعلنا نشير لبحث تم نشره في مجلة Nature Neuroscience، فيه أول دليل تجريبي على أن الأكاذيب التي تخدم مصالحنا الشخصية تتزايد تدريجيًا، وتكشف كيف يحدث هذا في أدمغتنا.

قام الفريق البحثي بمسح أدمغة المتطوعين أثناء مشاركتهم في المهام التي يمكنهم من خلالها تحقيق مكاسب شخصية عن طريق الكذب. وجدوا أن اللوزة الدماغية amygdala -وهي جزء من الدماغ يرتبط بالعاطفة- كانت أكثر نشاطًا عندما كذب المتطوعون لأول مرة لتحقيق مكاسب شخصية، ولكن بعد ذلك كلما استمر الكذب وتزايد حجم الأكاذيب انخفض رد اللوزة الدماغية. وبشكل حاسم، وجد الباحثون أن الانخفاضات الكبيرة في نشاط اللوزة الدماغية تنبأت بأكاذيب أكبر في المستقبل.

صورة توضح مكان اللوزة الدماغية (تلك التي باللون البرتقالي)

شملت الدراسة 80 متطوعًا شاركوا في مهمة تضمنت تخمين عدد البنسات الموجودة في جرة وإرسال تقديراتهم إلى شركاء غير مرئيين بالنسبة لهم بواسطة جهاز كمبيوتر. حدث هذا الأمر في عدة سيناريوهات مختلفة. لكن السيناريو الأساسي، قيل للمشاركين إن الهدف من التقديرات الأكثر دقة سيفيدهم هم وشركائهم. في العديد من السيناريوهات الأخرى، فإن الإفراط في تقدير المبلغ أو الإهمال في تقديره إما أن يستفيد منها الشخص على حساب شريكه، أو يستفيد منه كلاهما، أو يستفيد منه شريكه على حسابه الخاصة، أو يستفيد منه واحد فقط دون أي تأثير على الآخر.

ولكن معظم الناس اختاروا هذا السيناريو: أي عندما يكون الإفراط في تقدير المبلغ مفيدًا للمتطوع على حساب شريكه، فقد بدأ الناس بالمبالغة قليلًا في تقديراتهم التي أثارت ردودًا قوية على اللوزة الدماغية. تصاعدت المبالغة في تقدير المبلغ مع استمرار التجربة بينما تراجعت ردود اللوزة الدماغية.

وضحت الدكتورة تالي شاروت من قسم علم النفس التجريبي في جامعة كاليفورنيا والمسؤولة عن البحث أنه: “عندما نكذب من أجل تحقيق مكاسب شخصية، فإن اللوزة الدماغية لدينا تنتج شعورًا سلبيًا يحد من مدى استعدادنا للكذب”. “ومع ذلك، فإن هذا الرد يتلاشى مع استمرارنا في الكذب، وكلما زاد سقوطه، أصبحت أكاذيبنا أكبر. وقد يؤدي ذلك إلى “منحدر زلق” حيث تتصاعد الأكاذيب الصغيرة إلى أكاذيب أكثر خطورة”.

  • عندما تكون كاذبًا لمرةٍ واحدة، سوف تكون كاذبًا دائمًا

قديمًا، كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط “Immanuel Kant” في القرن الثامن عشر مشهورًا برأيه ضد الكذب في أي حال من الأحوال.. فقال: “بِكذبةِ رجلُ يُنبّذ، وكما كان الحال، تضيع كرامته كرجل”، ومعنى هذا الكلام بأن الرجل الذي لا يؤمن بما يقوله للآخرين، له قيمة أقل مما لو كان مجرد شيء، يجعل نفسه مجرد مظهر مخادع للإنسان.

إننا نرى ونجرب الآثار السلبية للكذب في حياتنا، فالكذب سيف ذو حدين يوجد فيه العديد من الفوائد التطورية العملية. على المستوى البيولوجي، الكذب يتيح لك الحصول على المزيد من الأشياء لنفسك، وبالتالي تكون أكثر عرضة للبقاء على قيد الحياة ونقل الجينات الخاصة بك، حتى لو كان ذلك ثمنًا من التعرض للفشل أو التعرض للخطر.

تذكرت مثلًا قديمًا يقول: “عندما تكون كاذبًا لمرة واحدة، سوف تكون كاذبًا دائمًا”. الكذب لن يزول أبدًا.
إضافة إلى ذلك، اسرح بخيالك وحاول أن تجاوب على تلك الأسئلة، هل نريد دائمًا معرفة ما يفكر فيه الناس؟ هل يمكننا حتى تخيل أننا نعيش في عالم خوارزمي مبسط للغاية لا يوجد فيه خيار سوى قول الحقيقة طوال الوقت؟

المصادر 1 2 

كتابة: مصطفى احمد مصطفى

تحرير: محمد لطفي

تصميم: شروق احمد

اظهر المزيد

مصطفى أحمد مصطفى

مسئول قسم الأحياء والكيمياء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى