الأحياء

كلاب بافلوف وفئران تشو، كيف تؤثر أمعائك على دماغك؟

في ليلة شتوية باردة، وبينما أتجول في أروقة مستشفى بيثليم الملكية للأمراض العقلية بالعاصمة البريطانية لندن ممارسًا عملي كطبيب أعصاب، لاحظت أن معظم مرضى الميلانخوليا «melancholia» وهو مرض عقلي من أعراضه الاكتئاب ويُعاني المرضى أيضًا من الإصابة بالإمساك الحاد وبوادر أخرى تدل على تعطل عام في عملية الهضم، كان طبيعيًا أن يفترض الأطباء أن الاكتئاب هو السبب وراء تلك الأعراض، لكنني فكرت بشكل مختلف وبدأت أبحث لمعرفة ما إذا كان شيئًا ما يجري في الأمعاء والبطن هو الذي يُسبب الاكتئاب وليس العكس، وللتأكد من افتراضي، قللت من كمية الطعام التي يتناولها المرضى وركزت على تناولهم شرابًا من اللبن المخمر يحوي بكتيريا اللبنية العصوية «Lactobacillus acidophilus» المفيدة للهضم.
وكانت المفاجأة هي تحسن حالتهم المزاجية، فمن بين 18 مريضًا اختبرتهم، شُفي 11 مريضًا بشكل كامل وطرأ تحسن واضح على مريضين آخرين، ولهذا كنت أول طبيب يتبين هذه الإشارة الواضحة على التأثير القوي لبكتيريا الأمعاء على الصحة العقلية للإنسان.

نسيت أن أعرفكم بنفسي، أنا د.جورج بورتر فيليبس وسوف أصحبكم في هذا المقال الشيّق لنعرف كيف لكائنات مجهرية بسيطة أن تؤثر في عقولنا المعقدة!

أنت بكتيريا!
اسمح لي أن أخبرك أنك لست وحيدًا، أو بالأحرى أنت لا تستطيع العيش وحيدًا، فهناك عالم بداخلك، جسدك من الخارج ومن الداخل مليء بأنواع مختلفة من البكتيريا والفطريات والفيروسات التي يشار إليها مجتمعة باسم الميكروبيوم، لديك حوالي 100 تريليون خلية بكتيرية تساعدك في هضم الدهون والألياف وتكوين فيتامينات ب، ك وحمض الفوليك والمساعدة على حفظ درجة حموضة معدتك لتتم عملية الهضم بشكل جيد بالإضافة إلى تعليم جهازك المناعي لمقاومة بعض البكتيريا الضارة، حتى أنها تتحكم في تصرفاتك!

كلاب بافلوف، وفئران تشو:
لعلك تتذكر أستاذ علم النفس في مدرستك الثانوية جالسًا على مقعد أمامك ومن وراءه سبورة سوداء مكتوب عليها بالطباشير «علم النفس السلوكي – الاشتراط الكلاسيكي لبافلوف»، لا تتذكر، حسنًا لا عليك، ستتذكر خلال السطور القادمة، دَرَس بافلوف الجهاز الهضمي للكلاب وقام بتصميم جهاز يمكن بواسطته مراقبة كمية اللعاب السائل من فم الكلب عند وضع الطعام في فمه، ولاحظ أن الكلاب التي يجري عليها تجاربه كانت تبدأ بإفراز لعابها بمجرد رؤيتها للحارس الذي يقدم لها الطعام، بل وحتى بمجرد سماعها لخطوات قدميه قبل أن يصل الطعام إلى أفواهها فعلًا! لذلك أجرى تجربته من خلال وضع كلب في مكان معين وقام بتشغيل صوت جرس مرة لمدة نصف دقيقة، في هذا الوقت كان يوضع مسحوق اللحم في فم الكلب حيث يؤدي ذلك في النهاية إلى إفراز اللعاب، أعاد تكرار هذه العملية بصورة مستمرة مرة كل 15 دقيقة حتى أخذ لعاب الكلب يسيل بمجرد سماعه لصوت الجرس.

لكن ما علاقة ما أقوله الآن بالبكتيريا والدماغ؟ نحن نعلم أن هناك تفاعلات تحدث بين بكتيريا الأمعاء ودماغك، لكن آليات هذه التفاعلات كانت مجهولة إلى أن آتى فريق بحثي من جامعة كورنيل بنيويورك وعلى رأسهم د.كوكو تشو «Coco chu» بسبر أغوار هذه التفاعلات عبر دراستهم لتكِيُّف الفئران مع الخوف، تم تدريب نوعين من الفئران (فئران طبيعية بها بكتيريا الأمعاء وفئران مُعالجة بالمضادات الحيوية للقضاء على البكتيريا الموجودة بالأمعاء) على ربط نغمة معينة بصدمة كهربية توجه إليهم ليصابوا بالخوف عند سماع النغمة على الطريقة البابلوفية، وبعد تكرار هذه العملية لمرات عديدة للتأكد من حدوث هذا الترابط الشرطي قام تشو ورفاقه بتشغيل النغمة لكن هذه المرة بدون صدمة كهربية، أظنك الآن تعرف النتيجة، لكن المختلف هنا عن تجربة بابلوف أن الفئران الطبيعية حدَّثت استجابتها وتأقلمت فلم تعد خائفة بعد عدة مرات في ما يسمى بانقراض أو إطفاء الخوف «Fear extinction»، بينما ظلت الفئران الخالية من بكتيريا الأمعاء خائفة لمدة طويلة.

لم تسأل لكنني أجيب..
لابد لك أن تعرف أولًا أن دماغك يسيطر على كل منطقة في جسمك عبر شبكته العصبية، وكل منطقة لها اتصالها المباشر عبر هذه الشبكة بالدماغ، وبالتالي فإن من المنطقي أن يؤثر هو على هذه المناطق لكن أن تؤثر هذه الأخيرة أو بالأحرى ميكروباتها عليه، هذا ما نتكلم فيه.

لنسأل الآن سؤالك الذي لم تسأله!
كيف حدث ما حدث ولم تعد الفئران الطبيعية خائفة بينما ظلت الخالية من بكتيريا الأمعاء خائفة رغم اختفاء الصدمة الكهربية؟
حسنًا يمكننا أن نجيبك في بعض آليات مهمة:
1- عملية انقراض الخوف تعتمد على وظيفة القشرة المخية «Cerebral Cortex»، لذلك قام الفريق بتصوير نشاط هذه المنطقة من الدماغ ليقيسوا النشاط العصبي ومدى تَكوّن الزوائد الشجيرية «Dentritic spines» المُغطية للخلية العصبية؛ هذه الزوائد تشارك بشكل كبير في تشكيل الروابط بين الخلايا العصبية وبعضها، وهذه الروابط العصبية مهمة في عملية المطاوعة التشابكية العصبية «synaptic plasticity»، وهي بالمناسبة عملية مهمة في التعلم والذاكرة، وجد الفريق أن الفئران الطبيعية أظهرت العنوان: كلاب بافلوف وفئران تشو، كيف تؤثر أمعائك على دماغك؟

2- بعد تجارب عديدة تجدها في الورقة البحثية توصلوا إلى أن لبكتيريا الأمعاء تأثيرًا على الأعصاب المثبطة أو المهدئة في الدماغ «Inhibitory Neurons» أكثر من الأعصاب المحفزة أو المُهيجة «Excitatory Neurons».

3- وجدوا أن الخَلايا الدِبقية الصَغيرة «Microglia» والتي لها دور في عملية تكسير الروابط العصبية الخاطئة غير المرغوب فيها، قد حدث لها تغير شكلي ووظيفي وأصبحت أقل عددًا في الفئران الخالية من بكتيريا الأمعاء عن الفئران الطبيعية.

4- بكتيريا الأمعاء تفرز مواد منها بعض النواقل العصبية المهمة مثل السيروتونين وغيره مؤثرة بذلك على أنشطة الدماغ المختلفة عبر العصب المبهم «vegus nerve»، وهو العصب الذي يربط الأمعاء بالدماغ.

تطبيقات مستقبلية مضيئة:
التطبيقات التي يمكن العمل عليها نتيجة للبحث المستمر في التفاعلات بين البكتيريا والدماغ واسعة النطاق، فكّر مثلًا في مرضى اضطراب ما بعد الصدمة «Post trumatic stress disorder» الذين لا يستطيعون إطفاء أو محو ذكريات التجارب المخيفة والمؤلمة، يثير بحث د.تشو وزملائه إمكانية العمل على هذه الميكروبات لمساعدة هؤلاء المرضى.

ما زال هناك الكثير لنتعلمه، وهذه الدراسة المهمة ما هي إلا واحدة من مئات الدراسات التي تنبهنا إلى ميكروبات أمعائنا بصفتها طريق جديد لفهم عقولنا، ولا يمكننا في النهاية تَجاهُل أن العقل السليم قد أصبح الآن في البطن السليم!

 

المصادر 1 2 3

 

كتابة: عبدالرحمن احمد

مراجعة: مصطفى احمد

تحرير: زينب احمد

تصميم: امنية عبدالفتاح

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى