أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم منح جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020 مناصفةً إلى إيمانويل شاربنتييه “Emmanuelle Charpentier” مديرة وحدة ماكس بلانك لعلوم مسببات الأمراض ببرلين، وجينيفر أ. دودنا “Jennifer A. Doudna” الأستاذة في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، والباحثة في معهد هوارد هيوز الطبي، لتطوير طريقة لتعديل الجينوم وهي اكتشافهما للمقص الجيني CRISPR/Cas9.
رحلة قصيرة إلى ما يقرُب من 4 مليارات سنة
في الماضي -وأقصد هنا الماضي العتيق، أي ما يقرب من 4 مليارات سنة- حيث لا يوجد غير البكتيريا التي تسكن كوكب الأرض ومعها الفيروسات، فكانت الأشكال المهيمنة على الحياة. لم يكن هناك سلام بين الفريقين، دائمًا في السابق -وحتى اللحظة هذه- ما تشن الفيروسات غزوات على البكتيريا لتحتلها وتدمرها، وكانت البكتيريا بدورها تُدافع عن نفسها وتُقاوم، فمنها من أُبيد، ومنها من استطاع النجاة. واستمر الحال على هذا المنوال حتى يومنا هذا -وسيستمر في المستقبل-.
أصل الحكاية
بدأت قصة كريسبر “CRISPR” في تقرير تم نشره عام 1987 يُبين وجود تكرارات غريبة وغير عادية في الجينوم (المادة الوراثية أو مجموع الجينات في الكائن الحي) الخاص بالبكتيريا الإشريكية القولونية أو المعروفة باسم إيشيريشيا كولاي “”Escherichia coli.
فشُغِل بال الباحثين بهذه التكرارات الغريبة، وقاموا بالعديد من التحاليل لمحاولة الوصول إلى أهميتها. فكشفت التحاليل أن هذه التكرارات كانت شائعة في بدائيات النواة، وكلها لها نفس الصفات، قصيرة متكررة، ويفصل بين هذه التكرارات تسلسلات متداخلة.
ولكي نفهم الأمر، علينا أخذ استراحة قصيرة، والعودة إلى أحد محاضرات علم البيولوجيا في الكلية.
محاضرة سريعة في علم البيولوجيا
جميع الكائنات بلا استثناء تمتلك بداخلها شفرتها الوراثية؛ ذلك الشريط الموجود في نواة جميع خلايا جسمك، يحمل كل شيء عنك، صفاتك، عاداتك، أمراضك، ذاكرتك، مشاعرك، حرفيًا كل شيء. أنت -أقصد جسدك- بالنسبة لذلك الشريط، تعتبر آلة عرض لتلك المعلومات التي يسجلها، هذا هو شريط الحمض النووي DNA.
والآن، دعنا نرجع إلى البكتيريا، تمتلك البكتيريا كما ذكرنا سابقًا الحمض النووي DNA الخاص بها، ولكن في صورة مميزة وغريبة للغاية؛ فالمادة الوراثية للبكتيريا تتكون من تكرارات (Repeats)، قصيرة (Short)، متماثلة، منتظمة (Regularly)، متباعدة (Interspaced)، متناظرة (Palindromic) -أي ممكن للأحرف قراءتها من اليمين لليسار والعكس صحيح كجملة “never odd or even” فيمكن قراءتها من اليمين لليسار والعكس -وبين تلك التكرارات يوجد أحماض نووية DNA مميزة- سنتحدث عنها لاحقًا.
شكل تخيلي لكريسببر (المادة الوراثية لبدائيات النواة)
ولتبسيط الأمر، دعونا نتخيل الشكل التوضيحي في الأعلي على أنه شريط الحمض النووي DNA للبكتيريا، فلنتخيل أن تلك المستطيلات الصفراء هي تلك التكرارات التي تحدثنا عنها في الأعلى (تلك التكرارات القصيرة متساوية التباعد عن بعضها البعض والتي لاحظها الباحثون أول مرة في الإيشيريشيا كولاي)، والتي تفصل بينها جزيئات من الحمض النووي DNA ولكن مختلفة عن بعضها البعض كما في المستطيلات الخضراء والزرقاء والبنفسجية والحمراء.
ومن هنا أتت تسمية كريسبر “CRISPR” “Clustered RegularlyInterspaced Short Palindromic Repeats” أي التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد -لا عجب في اختصار تلك الجملة إلى كريسبر فحسب!-، والذي يشير ببساطة إلى أنه الحمض النووي DNA لبدائيات النواة والتي منها البكتيريا.
وبعد ذلك بفترة، اكتشف الباحثون وجود نوع ثالث من الجينات مرتبط بتسلسل كريسبر، وأطلقوا عليه اسم “Crispr-associated” أي المرتبط بكريسبر واختصروها إلى كاس “Cas”.
كل هذه الفترة الطويلة وما زال العلماء لا يعرفون السر وراء تلك التكرارات، وما فائدة جزيئات الحمض النووي الفاصلة بينها، ولماذا هي مختلفة عن بعضها البعض، وما هي وظيفة تلك الجينات المرتبطة بكريسبر (كاس)؟
مسيرة شاربنتييه ودودنا
كانت إيمانويل شاربنتييه معروفة وسط زملاءها بالاجتهاد والعزيمة، وأن لها رغبة في القيام باستكشافات جديدة، حتى أنها نقلت عن لويس باستير جملته “الفرصة تفضل العقل الجاهز”.
عاشت في خمس دول مختلفة، في مدن مختلفة، عملت في 10 مؤسسات مختلفة، تغيّرت بيئتها وأصدقائها، محيطها بالكامل، ولكن كل أبحاثها لها قاسم مشترك: البكتيريا المسببة للأمراض، لماذا هي عدائية بذلك الشكل؟ كيف يطورون مقاومتهم للمضادات الحيوية؟ وهل من الممكن اكتشاف شيء يوقف تقدمها؟
في سنة 2002، ركَّزت شاربنتييه على واحدة من البكتيريا وهي “Streptococcus pyogenes” (والتي تصيب كل عام ملايين الأشخاص، دائمًا ما تسبب التهابات يمكن علاجها بسهولة مثل التهابات اللوزتين والقوباء، ومع ذلك، من الممكن أن تسبب تعفن الدم وتحطيم الأنسجة الرخوة في الجسم، مما يمنحه سمعة بأنه آكل لحوم البشر).
ولكي تفهم شاربنتييه هذه البكتيريا، قامت بدراسة كيفية ترتيب الجينات الخاصة بها. فقامت برسم خرائط الحمض النووي الريبي في تلك البكتيريا بالتعاون مع باحثين من برلين.
والمثير للدهشة، وجود أحد الأحماض النووية الريبية الغير معروفة وقتها بكميات كبيرة في هذه البكتيريا. وهذا الحمض النووي الريبي الغريب قريب جدًا من التكرارات الموجودة في جينوم البكتيريا (كريسبر). ورمزت له “tracrRNA”وبعد تجارب مكثفة، نشرت شاربنتييه اكتشافها لهذا الغريب في مارس عام 2011.
أما جينيفر، فكانت مهتمة بابن عم الحمض النووي DNA وهو الحمض النووي الريبوزي RNA، ولديها خبرة تقريبًا 20 سنة في التعامل معه.
وقبل سنة 2005، لم يكن يعرف أحد وظيفة كريسبر هذا، ولكن قام العلماء بالقيام ببعض الأبحاث، واكشفوا أن جزيئات الحمض النووي DNA المختلفة التي تفصل التكرارات عن بعضها البعض (المستطيلات الخضراء والزرقاء والبنفسجية والحمراء) تتطابق بشكل غريب ومثير مع الحمض النووي للفيروسات، وكأنها جزء منها.
كذلك ما أثار دودنا أن جينات كاس تشبه إلى حد بعيد تلك الجينات المسؤولة عن تكوين بروتينات تتخصص في فك وتقطيع شريط الحمض النووي DNA.
وهنا ظهرت الفكرة، هل من الممكن أن يكون لكريسبر وكاس دور مناعي في حماية البكتيريا؟ السؤال بطريقة أخرى، هل يستطيعان معًا شق الحمض النووي الفيروسي وتقطيعه عندما يهاجم الفيروس البكتيريا؟ فالفيروس عندما يهاجم أي خلية، حتى البكتيريا، يغرس فيها الحمض النووي الخاص به، ويستغل الخلية، ويتضاعف بداخلها حتى تصيرأعداده كبيرة جدًا، فتنفجر الخلية من الداخل كالقنبلة.
فقامت دودنا بدراسة جينات كاس تلك، وبالفعل تعرفت على الوظائف لعديد منها، واكتشفت أنها عبارة عن فئتين، الفئة الأولى وهي المعقدة، حيث تتطلب عددًا من البروتينات حتى تتم عملية القطع، والفئة الثانية وهي البسيطة، حيث لا تتطلب سوى بروتين واحد للقيام بذلك (والذي منهم كاس9).
مؤتمر بورتوريكو ولقاء آن أوانه
بعد أن نشرت شاربنتييه نتائج بحثها عام 2011، تم دعوتها لمؤتمر في بورتوريكو للحديث عن نتائجها، وقابلت دودنا بالصدفة في مقهي هناك وعرضت عليها التعاون، هل تودين المشاركة في دراسة وظيفة كاس9 في نظام الفئة 2 البسيط في بكتيريا S. pyogenes؟ ووافقت.
فكَّر كلاهما أن نظام كريسبر ضروري لتحديد الحمض النووي الفيروس، وأن كاس9 هو المقص، ولكن عندما يختبرون ذلك في المعمل يبقى الحمض النووري الفيروسي سليم، كيف هذا؟
السر كله كان يكمن في الجزيء الغامض tracrRNA! كانا يعتقدان أنه ضروري فقط في القطع عند ارتباطه بالتكرارات في كريسبر، ولكن عند انضمامه لكاس9 حصلت المعجزة، وتم تكسير الحمض النووي الفيروسي.
ونشرت دودنا وشاربنتييه اكتشافهما للمقص الجيني كريسبر/كاس9 في عام 2012.
وأخيرًا، كيف يعمل نظام كريسبر/كاس9؟
عندما يبدأ الفيروس في مهاجمة البكتيريا، يحقن مادته الواثية الفيروسية فيها لكي يتضاعف. هناك عدة سيناريوهات لما قد يحصل بعد ذلك.
أولًا: لو البكتيريا ليس لها نظام مناعي، أو لم تستطع أن تتصرف بسرعة وتقاوم الفيروس، سيقوم الأخير بالتضاعف بداخلها ويفجرها من الداخل وتتحرر النسخ لكي تصيب بكتيريا أخرى.
السيناريو الثاني: ماذا لو كان نوع هذا الفيوس هاجمها من قبل وتصدت له، وأخذت جزء من مادته الوراثية، ووضعته في تسلسل كريسبر الخاص بها (بين التكرارات، أي أحد المستطيلات الخضراء والحمراء والزرقاء والبنفسجي) (وكما ينتشر بين العامة: أخدت حاجة من ريحته)؟
- سيقوم كريسبر بنسخ نفسه، ويُكون cRNA أي الحمض النووي الريبوزومي لكريسبر، كذلك جينات كاس تحفز على تكوين بروتين كاس9 (رقم 2 في الصورة).
- ثم يأتي هنا دور الغامض tracrRNA ويلتصق بالتكرار المجاور للحمض النووي المراد استهدافه في cRNA، وبعد ذلك، يلتصق كاس9 بالtracrRNA والحمض النووي المراد استهدافه (رقم 3 في الصورة).
- بعد ذلك، تقوم جزيئات معينة بقطع بقية cRNA في كلا الجهتين، ويتبقى فقط tracrRNA ملتصق بالتكرار والحمض النووي المراد استهدافه (وغالبًا ما يشير كل ذلك إلى مصطلح واحد: gRNA أي الحمض النووي الريبوزومي المُوَجه Guide RNA).
لذلك، نحن الآن أمام مركّب معقد واحد يتكون من جزئين، كاس9 والمُوَجه.
- ثم بعد ذلك، يقوم هذا المركب المعقد بالارتباط بالحمض النووي الفيروسي، ويقطعه قبل حتى أن يبدأ في العدوى (رقم 4 في الصورة).
نأتي الآن للسيناريو الثالث: لكن كيف تتصدى البكتيريا للحمض النووي الفيروسي الذي يهاجمها، على الرغم من أنها لا تمتلك أثر سابق لها في كريسبر الخاص بها؟
سوف تقوم جينات كاس في نظام كريسبر بتكوين بروتونات كاس، لكن من الفئة الأولى المعقدة، وترتبط بالحمض النووي الفيروسي وتقطعه، وبعد ذلك، تأخذ قطعة منه وتُدمجها في نظام كريسبر، فتمتلك البكتيريا أثرًا بداخلها تستطيع التصدي لنفس الفيروس إذا هاجمها مرة أخرى (السيناريو الثاني).
وباستخدام نظام كريسبر/كاس9 نستطيع أيضًا إدخال جينات معينة في الحمض النووي عن طريق القطع، وإدخال تلك الجينات، وجعل الحمض النووي يُصلح نفسه.
تطبيقات نظام كاسبر
أعادت المقصات الجينية تشكيل علوم الحياة، فمن خلالها يمكن لعلماء الكيمياء الحيوية وعلماء الأحياء الخلوية معرفة وظائف الجينات ودورها المحتمل في تطور المرض.
كذلك في تربية النباتات والحيوانات، فيمكن إدخال صفات جديدة مرغوبة في النباتات، مثل تحمل الجفاف في المناخ الأكثل دفئًا، كذلك يمكن زيادة حجم وجودة الحيوانات كالأسماك مثلًا، حتى تكون صالحة للاستخدام البشري.
كما يساهم في الطب في العلاجات الجديدة للسرطانات والامراض الوراثية.
هذا كله جزء وليس كل.
عندما بدأت دودنا وشاربنتييه بفحص الجهاز المناعي لبكتيريا S. pyogenes، كانت أحد الأفكار أنهما ربما يمكنهما تطوير شكل جديد من المضادات الحيوية. وبدلًا من ذلك، اكتشفوا المقصّات الجينية.
لذلك إن أحد عوامل الجذب في العلم هو أنه لا يمكن التنبؤ به، لا يمكنك أن تعرف مستقبلًا إلى أين قد تقودك فكرة أو سؤال! حقًا ما أجمل العلم.
كتابة: مصطفى أحمد
تحرير: إسراء وصفي