التاريخ والأدب

الحياة الآخرة في مصر القديمة

كانت رؤية المصريين للحياة الآخرة معقدة بشكل لا يُصدّق، وكانوا مهتمين بحياة ما بعد الموت بشكل كبير، فيتضح ذلك جليًا من خلال مقابر الأهرامات الضخمة، والجثث المحنطة المدفونة بداخلها.
لم تكن الأهرامات مجرد مظاهر للتباهي والفخر بين الملوك، بل كانت تمثل بوابات تؤهلهم وتعينهم لحياة الآخرة، وفيها أعد الكهنة أرواح الملوك المتوفين لرحلة مذهلة، لم تخطر على قلب بشر.

انقسام الروح، وتحنيط الموتى

اعتقد المصريون أنه عندما يموت الجسد، تنقسم روحه إلى شقين: الأول هو جوهر الحياة، والذي يتحرر من الجسد ويشق طريقه إلى الحياة الآخرة، أما الشق الآخر الذي يمثل شخصية الإنسان يُترك محاصرًا في الجسم الذي يبقى على الأرض بدون حياة أو حركة.

كانت الطريقة الوحيدة للمّ شمل الروح والفوز بالخلود هي نجاة جوهر الحياة في رحلته عبر الجحيم والنجاة من الحساب، لكن لم تكن تلك رحلةً بسيطةً، والوقت يمر، فعلى جوهر الحياة أن ينهي رحلته قبل تحلل الجسد، وإلا فإن شق الروح المحاصر بالجسد سيموت، وسيذهب كل هذا المجهود سدى.
من أجل ذلك، ولإكساب الروح وقتًا كافيًا لإنهاء رحلة الآخرة، ظهرت فكرة التحنيط لحماية جثث المتوفين من التحلل لأكبر وقت ممكن.

كان المُحَنِّطون المصريون يسحبون أعضاء المتوفى الحيوية، تاركين فقط القلب لأنه موطن الروح بالداخل، كما كانوا يسحبون سوائلهم حتى تجف أجسامهم تمامًا، تاركينهم في حالة يمكن الحفاظ عليها لآلاف السنين.
كانت الروح المحاصرة في اعتقادهم يمكن أن تتضور جوعًا وتحتاج للطعام بعد الموت، فلذلك وبعد دفن الجسد، كان الكهنة يؤدون طقوسًا طويلة ومعقدة يتوسلون فيها إلى الآلهة لتساعد المتوفى على الأكل، وكانوا يتركون بجانب التابوت الأضاحي من الحيوانات لتتغدي منها الروح.

أعطى التحنيط الوقت الكافي للروح للصراع في الحياة الأبدية، لكنه كان إجراءً مكلِّفًا جدًا، فقد كان بمقدور الفراعنة والأثرياء فقط الحصول على قبر ومُحَنِّط، لكن لم يكن بمقدور الفقراء تحمل تكلفة التحنيط، فكان خيارهم الوحيد هو دفن موتاهم في الصحراء، على أمل أن يحفظ الجفاف أجسادهم لفترة كافية.

عبور نهر السماء

اعتقد المصريون بوجود نهر عظيم يفصل بين الأرض والعالم السفلي، كان كبيرًا لدرجة أن الآلهة لم تستطع عبوره.
الشخص الوحيد الذي يمكنه من اجتياز النهر كان قائد مركب الآلهة، وهو عبارة عن مخلوق يمتلك عيونًا في مؤخرة رأسه.
ولكن هذا القائد لا يساعد الجميع، فوجب على المتوفى إقناعه، وفي بعض الأحيان، كان لا بد من تهديده.
عندما يموت الفرعون، يقضي السحرة أيامًا في إلقاء التعاويذ السحرية لمساعدة روحه على الوصول إلى العالم السفلي. كان بعض تلك التعاويذ توسل للآلهة والبعض الآخر تهديدات لهم.
يُحكى أنه عندما مات الفرعون أوناس، أرهب سحرته قائد مركب الآلهة لمساعدته، ومحذرين إياه أنه إذا لم يطع الأمر سيواجه غضب الإله.

المرور عبر الغرف الاثني عشر

بعد رحلتهم في النهر يصلون إلى دوات (Duat) وهي أرض الآلهة المليئة بالشياطين والوحوش التي تخرج لتفترس أرواح الموتى، لذلك على الأرواح أن تدافع عن نفسها وتحارب الوحوش بالسحر والأسلحة، ولذلك غالبًا ما كان يتم تحصين الموتى المصريين بالتعاويذ والتمائم.

في طريقهم خلال العالم الآخر، كانت الروح تمر من خلال البوابات الاثنتي عشر المنيعة التي تصطف عليها الرماح الحادة، وتحرسها الثعابين التي تنفث السم والنار.

كانت الطريقة الوحيدة للمرور هي ذكر أسماء حُراس البوابات؛ فلذلك كانت أسماء هؤلاء الحراس تُنقش على جدران المقابر مع الملوك كي لا ينسوها.

تهديد الآلهة

على الرغم من كل الرعب في العالم السفلي، ربما كان الفراعنة أنفسهم هم الأكثر رعبًا هناك؛ فكان العديد من الملوك يهددون الآلهة بذبحهم وأكل أجسادهم إذا اعترضت الآلهة طريقهم.

يقوي أكل الإله الفرعون، ويساعده على خوض العالم السفلي، ويمكنهم اقتباس القوى الإلهية والمعرفة عن طريق أخذ قطمة من إله صغير، أو -كما هدد أحد الفراعنة- عن طريق التهام قلوبهم، وتحطيم عظامهم، وامتصاص نخاعهم.

الحساب

إذا تمكنت الروح من عبور البوابات الاثنتي عشر، فستصل إلى مملكة أوزوريس إله الموت.
وهنا يجب عليهم أن يبرهنوا أنهم عاشوا حياة جيدة وعادلة، من خلال إثباتهم تجنب الخطايا ال42 طيلة حياتهم، ثم تُوزن قلوبهم مقابل ريشة ماعت رمز الخير، لمعرفة ما إذا كانوا طاهرين حقًا.

بعدها يتم لم شمل روح الأبرياء والصالحين بجزء الروح المحاصر في الجسد، وعندها يتم منحهم الحياة الأبدية والفوز بالجنة، حيث سيعيشون مع الآلهة في أرض النعيم.

أما إذا كان المتوفى شريرًا، فسيتم إلقاء قلبه إلى أميت “مفترس الموتى”، وهو مخلوق يتكون من جزء من الأسد، وجزء من فرس النهر وجزء من التمساح، ويُلقي روحه في حفرة من النار.

خلود من العبودية

لم تكن الرحلة إلى الجنة بالنسبة للمصريين طريقًا سهلًا، لكنها كانت أسهل بكثير على الفرعون من الرجل العادي؛ فلم يكن هناك مساواة في الآخرة، حتى في الجنة يصبح الملك إلهًا، في حين أن مكافأة الخادم الوحيدة ستكون ترقيته لرتبة أعلى فقط.

وقديمًا، آمن الكهنة المصريون أن الفرعون وحده هو من يمكنه دخول الجنة، بينما كان على الباقين البقاء في العالم السفلي للأبد، يكافحون من أجل البقاء.

ختامًا، توافقت فكرة المصريين القدماء عن وضع المتوفى بعد الموت إلى حد ما كبير مع معتقدات الديانات السماوية، وآمنوا بالحساب والعقاب والثواب، وأن الإنسان لم يخلق عبثًا، ولن ينتهى إلى اللّاشيء بعد وفاته، وسيحاسب على كل ما اقترفت يداه؛ فلذلك عاشوا حياة عادلة وتجنبوا كثيرًا من الآثام.

المصادر: 1

كتابة: منة منصور

مراجعة: ياسمين محمد

تحرير: عمر ياسر

اظهر المزيد

الجرعة اليومية من العلوم

مؤسسة علمية تطوعية هدفها نشر وتبسيط العلوم، وإثراء المحتوى العربي العلمي عبر الإنترنت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى