كيف يمكن أن تشعر بالألم في غير مكانه أو من عضو مبتور؟
إن سألناك ما هو الألم بالطبع سيتبادر إلى ذهنك أنه عقاب وشعور مزعج تريد التخلص منه فحسب، ولكن هل لك أن تتخيل أنه آلية يحافظ بها جسمك على نفسه؟
الألم هو من يخبرنا ما يجب وما لا يجب أن نفعله، مثلًا “لا ترفع أحمالًا باليد المجروحة”، “لا تمش على قدمك المكسورة”، “اذهب لرؤية الطبيب”، هو فقط تحذير أن هناك شيء خاطئ يحدث، ويجب أن يكون الأمر قويًا لتطيعه وتصلح المشكلة، لذلك هو شعور مزعج فعلًا كونه في الغالب يعبر عن مشكلة لا تتحمل التأخير أو التأجيل.
مستقبلات الألم هي أحد أنواع النهايات العصبية والمنتشرة في أجزاء الجسم كله، تتعرف على التغيرات الحرارية أو الكيميائية أو الفيزيائية التي يحتمل أن تكون خطرة، وتقوم بإرسال رسالة بتلك التغيرات إلى المخ لتنبيهه، كما تساهم بآليات معينة في تحسين التدفق الدموي في المنطقة المتضررة مما يحفز إصلاح التلف.
التخدير الموضعي يعطل عمل تلك المستقبلات ويجعلها عديمة النفع مؤقتًا، أما الالتهاب على الجانب الآخر يجعل تلك المستقبلات حساسة أكثر، إلى درجة أنها تستجيب في مواقف ليست خطرة في الظروف العادية، فمثلًا عند تحريك مفصل ملتهب يؤلمك وبشدة قبل حتى أن تتحرك أو تتأثر الأنسجة التالفة.
وعلى عكس المعروف فإن الألم لا ينتج من تلف الأنسجة بشكل مباشر، إنما هو نتاج تحليل المخ للمعلومات القادمة إليه من مستقبلات الألم والمعلومات الإدراكية المحتفظ بها مثل التجارب السابقة والتوقعات وبعض المعلومات الحسية الأخرى من البصر والسمع وغيره.
لكن أحيانًا يخطئ المخ في معالجة سيل المعلومات القادم إليه هذا، وتنتج بعض الأخطاء، منها الألم المحول “Referred Pain” وهو الشعور بالألم في أماكن بعيدة غير أماكن المشكلة الأصلية، أشهرها الشعور بألم خلف الكتف والذراع في حالة الأزمات القلبية. الطبيعي أن كل منطقة في الجسم تغذيها أعصاب متخصصة، كل عصب ينقل نوعًا معينًا من الإحساس من وإلى المنطقة، والطبيعي أن الجهاز العصبي منظم ولا يجب حدوث خلل كهذا، إذًا ما الذي يحدث؟ لتفهم الأمر دعنا نضرب مثالًا.
أنت رجل عجوز متقاعد تعيش وحدك في منزل وأطفال الحي يلعبون بالطابة أمام منزلك، يوجد طفلان في الحي أحدهما هادئ والآخر شقي، الطفل الشقي كثيرًا ما يلقي الطابة و يكسر زجاج نافذتك ويركض هاربًا، ولكن ذات مرة ألقى الطفل الهادئ الطابة وكسر زجاج نافذتك، إن اكتشفت انكسار الزجاج بالطابة -وبدون أن ترى ما حدث- من ستتهم؟ الطفل المعتاد على إلقائها أم الآخر؟ بالطبع سيكون الشقي هو المتهم وستشكوه لوالديه.
هناك أعصاب قادمة من أماكن المخ معتادة على كثرة تلقي إشارات حسية منها: أعصاب ذات إدخال حسي عالٍ مثل البشرة، وأخرى تأتي من أماكن ليس من المعتاد تلقي إحساس منها: أعصاب ذات إدخال حسي منخفض كالمعدة مثلًا. كلا النوعين يلتقيان معًا عند نفس المستوى أو النقطة من الحبل الشوكي ومنه إلى المخ.
حسنًا، لنعد توزيع الأدوار في القصة السابقة: الطفل الشقي يمثل الأعصاب ذات الإدخال العالي، والهادئ يمثل الأعصاب ذات الإدخال المنخفض، وأنت ومنزلك تمثلان دور المخ في الفهم والتحليل.
عندما يكون هناك تحفيز مهم من مناطق الإحساس المنخفض يخطئ المخ في تفسيرها ويفسر أنها قادمة من مراكز الإحساس المرتفع كون المخ غير معتاد على تلقي إشارات منها، وبما أن المخ هو من ينتج الألم فيجعلك تشعر بالألم في غير مكانه.
خطأ آخر من تلك الأخطاء يعرف باسم ألم الطرف المزيف “Phantom pain” يشعر فيه المريض بألم في الطرف المبتور بعد عمليات البتر! يظهر الألم خلال أسبوع من عملية البتر ويكون الألم متقطع أو دائم، ويكون في أبعد مكان من الطرف مثل قدم الساق المبتورة.
كان يُعتقد سابقًا أنه مشكلة نفسية ولكن اتضح أن له أساس عصبي؛ فأظهرت نتائج الرنين المغناطيسي نشاطًا في المناطق التي كانت تستقبل الإحساس من الأطراف المبتورة عند إحساس المريض بالألم الزائف.
والسبب الفعلي وراءه غير واضح، يُعتقد أنه ينتج بسبب الإشارات المختلطة من المخ؛ فبعض المناطق في المخ لا تستقبل أي إشارات من العضو المبتور، وتحاول أن تتكيف على الوضع الجديد بطرق غير متوقعة، ولكنه وضع غير مألوف، هناك شيء خاطئ، وما هي الطريقة الوحيدة التي يخبرك بها المخ أن هناك شيء خاطئ؟ بالطبع عن طريق الألم.
كما أظهرت بعض الدراسات أن المخ يقوم بما يشبه إعادة توزيع الأدوار بعد عمليات البتر، بمعنى أنه عند بتر اليد مثلًا لا يتم إرسال أي إشارات منها إلى مناطق الإحساس الخاصة بها في المخ، مما يجعل المخ يكلف تلك المناطق بإدارة إشارات عضو آخر لا يزال موجودًا بالجسم كالخد مثلًا، فعند لمس الخد تعتقد المنطقة أن اليد هي التي تتحرك -كونها ليست معتادة بعد على الوضع الجديد-، ولكن اليد ليست موجودة كي تتحرك! إذًا فهناك شيء خاطئ، وما هي الطريقة الوحيدة التي يخبرك بها المخ أن هناك شيء خاطئ ؟ الألم.
في النهاية، المخ لا ينتج الألم بسوء نية، هو فقط يحاول إخبارك أن هناك شيء خاطئ ويجب إصلاحه، وإن كان يخطئ أحيانًا ولكن حسن القصد يغفر له الخطأ.
كتابة: ياسمين محمد
مراجعة: عبدالله طاهر
تصميم: امنية عبدالفتاح
تحرير: اسامة الشيمي