الطب

السرطان: عندما لا يكتفي حليفك بخيانتك!

الخلايا السرطانية هي خلايا قد جُنت، فأخذت تنقسم من تلقاء نفسها دون الخضوع لسيطرة الجسم؛ ربما بسبب طفرات جينية، لسنا متأكدين بعد. ويُصنف السرطان حسب سلوك خلاياه إلى سرطانات خبيثة وأخرى حميدة والتي في الغالب لا تُهدد حياة المريض إلا إن كانت تضغط على عصب أو شريان رئيسي أو ظهرت في المخ.
الخطورة أكبر في الأورام الخبيثة؛ فحوالي 90% من نسب الوفيات بالسرطان ليست بسبب التدمير الموضعي، إنما بسبب تلك الجواسيس الصغيرة التي تترك مكان السرطان وتنتشر عبر الدم أو السائل الليمفاوي إلى الأعضاء الأخرى منشئة أورام جديدة وهكذا.
ينتشر السرطان لعدة أسباب منها: نقص الأكسجين والمواد الغذائية، تراكم حمض اللاكتيك الناتج من حرق الجلوكوز أو هروبًا من الهجوم، لكن وبرغم تلك القدرة على الحركة ثبت أنها لا تُستغل إلا عند الحاجة فقط.

هناك موضوعان رئيسيان هما محور البحث المستمر في مجال السرطان ألا وهما:
1- كيفية بدء السرطان
2- كيفية انتقاله إلى أجزاء أخرى
فيما يتعلق بنمو السرطان فهناك العديد من الآليات المقترحة مثل الطفرة الجينية أو اختلال في تركيب أحد الأنسجة أو خلل في الكروموسومات، وفيما يتعلق بكيفية انتقال السرطان فهناك جدال على كونه موروث أم مكتسب، أم مجرد ظاهرة تحدث بدون أسباب.
ويقوم العلماء الباحثون في مجال السرطان بتركيز جهودهم على تفسير الآليات الجزيئية (على مستوى الجزيء) التي تخضع لها هجرة الخلايا السرطانية وتلك الآليات تكشف عن عملية معقدة تتضمن مئات إن لم يكن آلاف الجزيئات، والهدف من تلك الدراسة هو معالجة انتقال الخلايا السرطانية على مستوى ما قبل الجزيئات لتحديد السبب وراء انتقالها من موقعها الأصلي.

في البداية دعنا نسأل هل انتشار السرطان أمر جيني أم مكتسب؟
بالمنطق، إن كان الأمر جينيًا فيجب أن يكون مصدر السرطان -الخلية السليمة- يمكنه الانتشار، وتقريبًا هذا صحيح؛ فمثلًا عند تطور الجنين تنتقل بعض الخلايا العصبية من أماكنها حتى تستقر في أماكن أخرى لأداء وظيفتها المستقبلية، ولكن لم يتم تحديد أي جين هو المسؤول عن انتقال الخلايا من أماكنها بالرغم من الأبحاث العملاقة في مجال الجينات.
الخلايا الحية مبرمجة على الموت بعد انتهاء فترة حياتها، وأشهر ما يميز خلايا السرطان هو قدرتها على مقاومة الموت المبرمج هذا.
ولكن على النقيض، موت الأنسجة “Necrosis” أو موت الخلايا الذاتي المبرمج “Apoptosis” يعتبران إشارة مهمة لتشخيص الأورام الخبيثة! ومن التفسيرات المنطقية لموت الأنسجة هو أن احتياجات الخلايا السرطانية من المغذيات يفوق إمدادات الدورة الدموية.
صدقنا أنت لم ترَ شيئًا بعد!

أثبتت الدراسات أن زيادة نشاط الجينات المضادة للانحلال الذاتي لخلايا السرطان (أي زيادة فترة حياة خلاياه) يعتبر مؤشر لتحسن حالة المريض مستقبلًا وقلة خطورة السرطان في بعض أورام الثدي والمستقيم والقولون وبعض أنواع سرطان الرئة، وعلى النقيض فإن زيادة نشاط مستقبلات موت الخلايا (قصر فترة حياة خلاياه) تعتبر مؤشرًا لسوء حالة المريض في أورام خلايا الميلانين وبعض أنواع سرطان الكلى، وفي حالة علاج للسرطان قائم على تحفيز موت الخلايا، وُجد أن العلاج يسرع انتشار الخلايا السرطانية إلى العظام.
لم تستوعب الأمر؟ باختصار، أهم ما يميز السرطان هو مقاومته للموت، ولكن وجود خلايا ميتة بكثرة بين أنسجته يعني زيادة قوته!
المعلومات متناقضة تمام النقض، ما التفسير؟ الخلايا السرطانية هي في النهاية أجزاء منا تمتلك جيناتنا والمباراة على أرضنا، إذًا يجب أن تلعب بقوانيننا.

إن نظرت حولك ستجد أن فترة الحياة الطويلة ومعدل التكاثر متناقضان؛ أي أن قصر دورة الحياة يجب أن يكون متبوعًا بارتفاع الخصوبة؛ حتى يحافظ الجنس على نوعه، والعكس بالعكس؛ كيلا يسيطر نوع أو أنواع معينة على الحياة على الكوكب ويختل النظام القائم بين الأحياء.
مع تطبيق ذلك على خلايا السرطان، نجد أنه مع استمرار موت الخلايا وقصر دورة الحياة سوف يحفز ذلك انقسام باقي الخلايا الناجية وزيادة التكاثر، والعكس بالعكس. وبالطبع الأجيال الجديدة ستكون أقوى من أسلافها وأكثر قدرة على الانتشار، لذلك يفضل السرطان التكاثر العالي على طول فترة الحياة.
وكما قلنا فإن معظم الوفيات بسبب انتشار السرطان، إن استطعنا زيادة عمر خلايا السرطان هل نتمكن من تقليل انتشاره وبالتالي تقليل خطورته؟

العلاقة بين الالتهابات والسرطان هي مفارقة غريبة حقًا؛ فعلى مدار عقود أُعتقد أن الجهاز المناعي هو السد المنيع ضد مسببات السرطان بل وبعض الدراسات اتجهت لتحفيز الجهاز المناعي كعلاج أو وقاية من السرطان، يبدو الأمر منطقيًا هنا أيضًا ولكن لا؛ حيث أن أشهر صور المناعة للجسم وهي الالتهابات ثبت أنها تسهل عملية انتشار الخلايا السرطانية!

فقد ثبت أن بعض المواد التي تنتجها الخلايا المناعية تحفز انقسام خلاياه، أضف لذلك أن مهاجمة الخلايا وتدميرها يحفز انقسام الناجين كما وضحنا في النقطة السابقة، إضافة للسبب المنطقي وهي أنها مثلنا؛ إن كنت تحت هجوم إما أن تدافع عن نفسك أو تهرب، الخلايا السرطانية تختار الأسهل وهو الهروب وبالتالي الانتشار. إن استخدمنا أدوية تعمل على تثبيط جهاز المناعة هل ستكون فعالة أكثر من تلك التي تعمل على تقويته؟
وفي الثقافة الصينية، يُعتقد أن سبب السرطان هو ركود الدورة الدموية، ولذلك فإن أحد طرق علاج السرطان تكمن في تحسين التدفق الدموي.

وعلى مدار العقود السابقة كان تحسين الدورة الدموية بالعلاج الصيني فعال جدًا مع العلاج الإشعاعي؛ وذلك لأن تحسين الدورة الدموية يُحسن تدفق الأكسجين للخلايا وفعلًا ساعد ذلك في رفع كفاءة العلاج الإشعاعي، ولكن ذلك وفر المهرب للخلايا السرطانية فرفع معدل الانتشار أيضًا!

حسنًا، لنعطِ المريض أدوية مضادة لتكوين الأوعية الدموية، وبالتالي نشن حصارًا اقتصاديًا عليها فلا تأكل ولا تهرب، خطة جيدة، لكنها فشلت أيضًا، فقطع الغذاء عنها يدفعها للهروب من تلك البيئة بأي طريقة، كاتخاذ الطريق الليمفاوي، كما ترتفع نسبة موت الخلايا السابق التحدث عنها.

يتضح من السابق أنه للأسف لا توجد طريقة واحدة حتى الآن تقلل الانتشار، وللأسف أيضًا معظم أنواع العلاجات الحالية تحمل احتمالية تحفيز الانتشار كونها تقوم أساسًا على قتل الخلايا السرطانية أو حرمانها من الغذاء.

 

المصدر

 

كتابة: ياسمين محمد

مراجعة: دينا ناصر

تصميم: نهي عبدالمحسن

تحرير: اسامة الشيمي

اظهر المزيد

ياسمين محمد

عضو بقسم التدريب والتطوير ومسئول قسم علم النفس والفلسفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى