الأحياء

التلاعب في البشر بهدف العلاج!

مرَّ أكثر من عام -حتى الآن- على تلقي العالم لصدمة العالِم البيولوجي الفيزيائي جيان كوي “He Jiankui”، الشخص الذي استخدم تقنية كريسبر لتعديل الأجنة البشرية وجَعْلها مقاومة لفيروس نقص المناعة البشرية “HIV” مما أدى إلى ولادة التوأم لولو ونانا.

ولقد تم الكشف عن تفاصيل مهمة في الإصدار الأخير من الدراسة التي أجراها ذلك العالِم وفريقه أثارت سلسلة من المخاوف حول كيفية تعديل الجينوم -وهو المادة الوراثية الموجودة في الكائن الحي- الخاص بلولو ونانا.

قبل كل شيء، دعونا أولًا نتعرف على ماهية كريسبر وطريقة عملها:
كريسبر هي عبارة عن تقنية تسمح للعلماء بإجراء تعديلات دقيقة على أي حمض نووي عن طريق تغيير تسلسله.
وبواسطة كريسبر تستطيع التخلص من جين معيَّن بجعله غير نشط، أو قد تُعدل على شريط الحمض النووي DNA مثل إدخال أو إزالة جزء من الحمض النووي.

يعتمد تعديل الجينات باستخدام كريسبر على الارتباط الذي يحصل بين بروتينين أولهما بروتين Cas 9 وهو ذلك البروتين المسؤول عن قطع الحمض النووي، والثاني عبارة عن جزيء صغير من الحمض النووي الريبي RNA وهو عبارة عن دليل يوجه Cas 9 إلى الموضع المفترض أن يتم فيه عملية القطع.

كما يحتاج النظام أيضًا إلى مساعدة من الخلايا التي يتم تعديلها، وذلك بسبب التلف المتكرر للحمض النووي، لذلك يتعين على الخلايا بانتظام إصلاح أضرار الحمض النووي.

حسناً، بعد تعرفنا على ماهية كريسبر وميكانيكية عملها، دعونا نتطرق إلى كيف تم تعديل جينوم لولو ونانا؟

كان جيان كوي وفريقه يستهدفون جيناً يسمى CCR5، ومن المعروف أن هذا الجين ضروري لفيروس نقص المناعة البشرية للدخول إلى خلايا الدم البيضاء وإصابة الجسم، وكان الهدف من استهداف هذا الجين هو الحصول على الطفرة الوحيدة الخاصة به ألا وهي CCR5-∆32، ولمزيد من التوضيح دعونا نضرب عدة أمثلة.

عَلمنا سابقًا أن هناك طفرة واحدة فقط خاصة بهذا الجين وهي CCR5-∆32، ويمكن أن نطلق عليها أيضًا عدة مصطلحات أخرى بدلاً من الطفرة، كمصطلح “تغير أو أليل”، ولفهم ما يعنيه مصطلح “أليل” علينا أولًا أن نعرف أن الجين يحدد الصفة الوراثية، والأليل يحدد نوع تلك الصفة، فمثلًا نعتبر أن الجين هو مشروب الكوكاكولا، وهناك أنواع منها كالكوكاكولا العادية والدايت والخالية من الكافيين، هؤلاء الأنواع السابقة أليلات للجين، فكما هناك جين مسؤول عن لون العينين، هناك أليلات لهذا الجين تجعل العينين من ذوات اللون الأسود أو البني أو العسلي أو غيرها من الألوان.

نستخلص من كل ما سبق أن جين CCR5 ضروري لفيروس HIV، وطفرته أو أليله CCR5-∆32 يعمل على ارتفاع مستوى المقاومة للنوع الأكثر شيوعًا من فيروس HIV، وهذه الطفرة شائعة الحدوث بشكل طبيعي في البشر.

لذلك أراد جيان كوي وفريقه إعادة إنشاء هذه الطفرة باستخدام كريسبر على الأجنة البشرية، في محاولة لجعلها مقاومة للإصابة بفيروس HIV، لكن للأسف لم يسر الأمر كما كان مخطط له.

فأولاً: على الرغم من الإدعاء في ملخص مقالهم غير المنشور، أنهم استنسخوا طفرة CCR5 البشرية، إلا إنهم في الحقيقة حاولوا التعديل على CCR5 للاقتراب إلى CCR5-∆32، ونتيجة لذلك ظهرت طفرات جديدة مختلفة، منها من له آثار غير معروفة، قد تمنح أو لا تمنح مقاومة للإصابة بفيروس HIV، وقد تكون لها عواقب أخرى أو قد لا تكون.
ومما يدعو للقلق أنهم مضوا قدمًا في زراعة الأجنة دون اختبار أيًا منهم.

ثانيًا: تأثير الفسيفساء “The Mosaic effect”:
والذي قد يكون المصدر الثاني للإخفاق، ومعنى هذا المصطلح السابق أن ليست كل الخلايا في الأجنة قد تم تعديلها، ففي النتيجة يوجد داخل الجنين البشري مزيج من الخلايا التي تم تعديلها وتلك التي لم يتم تعديلها، وعلى الرغم من أن البيانات المتاحة محدودة، إلا أنه يبدو أن كلًا من نانا ولولو لديهما تأثير الفسيفساء، وهذا يجعل من المرجح أن الأطفال الناتجين من التعديل غير قادرين على المقاومة.

ثالثاً: قد ينتج عن التعديل خطوات أخرى غير مقصودة، فمثلًا عند استخدام ذلك الموجه “Guide rRNA” الذي يعمل على توجيه Cas 9 إلى المكان المطلوب ليتم فيه عملية القطع، قد يُخطيء هذا الجزيء ويحدد مكان آخر فيه تسلسل مماثل، بمعني آخر يستهدف أماكن خاطئة.

وبالعودة مرة أخرى إلى جيان كوي وفريقه، فبعد كل الخطوات اللازمة التي قاموا بها لحدوث تعديل على جين CCR5 في الخلايا، قاموا باختبار الخلايا التي تم تعديلها، ولم يُبلِغوا سوى عن تعديل واحد فقط تم في مكان خاطيء، وبالطبع لم يفحصوا كل الخلايا بل أخذوا بعضًا منها وأخرجوها وفحصوها، والخلايا الباقية في الجنين لم تخضع للفحص، قد تكون بها تعديلات مختلفة حدثت، ولكن هذا ليس خطأ الفريق، فهناك دائمًا قيود في الكشف عن الهدف والفسيفساء، لذلك فكل ما يمكننا الحصول عليه هو صورة جزيئية فقط، ومع مثل تلك الصورة الجزيئية كان عليهم أن يتوقفوا.

بالإضافة إلى أن والد التوأم كان مصاب بفيروس HIV، وكان هناك طرق راسخة لمنع الأب المصاب بالفيروس من نقل مرضه إلى الأجنة وذلك من خلال استخدام طريقة غسل الحيوانات المنوية “sperm washing” -وهي عملية يتم فيها فصل الحيوانات المنوية الفردية عن السائل المنوي، ويتم استخدام الحيوانات المنوية المغسولة في التلقيح الاصطناعي باستخدام تقنية التلقيح داخل الرحم (IUI) وفي الإخصاب خارج الرحم (IVF)-.

السؤال هنا لماذا يلجأوا إلى تعديل الجينات ذات الفائدة الوحيدة ألا وهي التقليل فقط من خطر الإصابة بفيروس HIV وأمامهم الطريقة السابقة التي تمنع نقل المرض كلياً؟!

بصفة عامة، لا يمكننا إنكار الفوائد العظيمة لتعديل الجينات فمثلاً:
1- تجعل النباتات أكثر مقاومة للأمراض المدمرة.
2- تلعب دوراً مهماً في التكيف مع التغيرات البيئية.
3- التعديل الجيني للخلايا الجسدية للمريض المصاب بمرض Beta thalassemia والخلايا المنجلية sickle cell disease شهد تطورات واعدة.

ومع كل تلك الفوائد، فنحن لسنا مستعدين لتعديل الجينات في الأجنة البشرية لأننا ببساطة لا نمتلك التقنيات المناسبة.

كان دور الرأي العام من كل هذا يتمثل في رفع عدة دعاوي فردية لوقف عملية تعديل الأجنة، كما أن منظمة الصحة العالمية تدخلت في الأمر بإرسال بعضٍ من خبرائها إلى اليونسكو. ولكن مع كل هذا لم يتم الحصول على توافق في الآراء.
لذلك كان يجب العودة إلى أصحاب الشأن نفسه وهم المرضى، وإخبارهم بكل شيء، كما يجب أيضًا مشاركة كل شيء مع الجمهور.

والآن، بعد كل ما قصصته هنا في ذلك المقال، سؤالي هو: هل من المفترض أن نلعب بصحة الأجنة البشرية، حتى وإن كان لغرضٍ نبيل؟
وإن كانت الإجابة بنعم، من ذلك الذي يمكنه أن يتخذ مثل هذا القرار؟

 

المصادر 1 2

 

كتابة: مصطفى احمد مصطفى

مراجعة: ميار محسن

تحرير: شدوى محمود

تصميم: عاصم عبد المجيد

اظهر المزيد

مصطفى أحمد مصطفى

مسئول قسم الأحياء والكيمياء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى