بكتيريا E.coli من مُتغيّرة التغذية إلى ذاتية التغذية
على مدار عدة أشهر، ابتكر الباحثون في إسرائيل سلالات من بكتيريا “Escherichia coli”، والتي تستهلك غاز ثاني أكسيد الكربون للحصول على الطاقة، بدلًا من استهلاكها المُركّبات العضوية للقيام بذلك.
هذا الإنجاز في البيولوجيا التخليقية يُسلط الضوء على الليونة المُذهلة لعملية الأيض البكتيري، حيث ظهر هذا البحث في السابع والعشرين من شهر نوفمبر في مجلة الخلية.
يقول المؤلف الكبير رون ميلو “Ron Milo”، عالم أنظمة الأحياء في معهد وايزمان للعلوم: “كان هدفنا الرئيسي هو إنشاء منصة علمية مُناسبة يُمكن أنْ تُعزز تثبيت ثاني أكسيد الكربون، والتي يُمكن أنْ تُساعد في مُواجهة التحديات المُرتبطة بالإنتاج الدائم للأغذية، والوقود، والاحتباس الحراري الناجم عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون”.
“يُعدّ تحويل مصدر الكربون إلى E.coli، العمود الفقري للتكنولوجيا الحيوية، من الكربون العضوي إلى ثاني أكسيد الكربون خطوة رئيسية نحو إنشاء مثل تلك المنصة”.
من المعروف أنَّ العالم الحي ينقسم إلى: autotrophs -وهي عبارة عن كائنات ذاتية التغذية تستطيع تصنيع غذائها بنفسها، والتي تُحوّل ثاني أكسيد الكربون غير العضوي إلى مواد حيوية، أي ينمو نموًا ذاتيًا-، و heterotrophs -وهي كائنات مُتغيّرة التغذية لا تستطيع تصنيع غذائها بنفسها، لذلك تستهلك المُركّبات العضوية.
إنَّ الكائنات ذاتية التغذية “autotrophs” تُهيمن على الكتلة الحيوية على الأرض، وتُزودنا بالكثير من طعامنا ووقودنا، لذلك يجب أنْ تعرف أنَّ الفهم الأفضل لمبادئ النمو الذاتي وأساليب تحسينه أمر بالغ الأهمية في الطريق إلى الاستدامة.
ولكن كان التحدي الأكبر في البيولوجيا التخليقية، هو هندسة كائن مُتغيّر التغذية “heterotrophs” ليُصبح كائن ذاتي التغذية “autotrophs”، ولكن على الرغم من الاهتمام واسع النطاق بتخزين الطاقة المُتجددة وإنتاج أكثر استدامة للأغذية، فإنَّ الجهود السابقة لتصميم كائنات صناعية ذاتية التغذية لاستخدام ثاني أكسيد الكربون كمصدر وحيد للكربون قد فشلت، حيث كانت المُحاولات السابقة لعمل دورات تثبيت ثاني أكسيد الكربون ذاتي التحفيز في نموذج الكائنات مُتغيّرة التغذية تتطلب دائمًا إضافة مُركّبات عضوية مُتعددة الكربون لتحقيق نمو مُستقر.
يقول المؤلف الأول شموئيل غليزر “Shmuel Gleizer”، من معهد وايزمان للعلوم: “من وجهة نظر علمية أساسية، أردنا أنْ نرى ما إذا كان هذا التحوّل الكبير في النظام الغذائي للبكتيريا -من الاعتماد على السكر إلى تصنيع كل المواد الحيوية من ثاني أكسيد الكربون- مُمكنًا”، “إلى جانب اختبار جدوى مثل هذا التحوّل في المُختبر، أردنا أنْ نعرف مدى الحاجة إلى التكيُّف من حيث التغيُّرات على مُخطَط الحمض النووي البكتيري”.
لذلك في دراسة الخلية، استخدم الباحثون طريقة إعادة التمثيل الغذائي metabolic rewiring -وهي عبارة عن مُحاولة التكيُّف مع ظروف مُنخفضة من العناصر الغذائية والأكسجين- مع استخدام lab evolution لتحويل E.coli إلى كائنات ذاتية التغذية، حيث تحصد السلالات المُصنّعة الطاقة من الفورمات -حمض الفورميك- والتي يُمكن أنْ تُنتج بالكيمياء الكهربية من مصادر مُتجددة، ولأنَّ الفورمات عبارة عن مُركّب عضوي أحادي الكربون لا يعمل كمصدر للكربون لنمو E.coli، لذلك هو لا يدعم النمو كمُتغيّرة التغذية.
كما صمم الباحثون السلالة لإنتاج إنزيمات غير أصلية، لتثبيت الكربون واختزاله، ولحصاد الطاقة من الفورمات.
ولكن كل هذه التغيُّرات وحدها لم تكن كافية لأنْ تُصبح ذاتية التغذية، لأنَّ أيض E.coli يتكيف مع النمو كمُتغيّرة التغذية heterotrophic growth.
وللتغلُّب على هذا التحدي، تحول الباحثون إلى adaptive laboratory evolution كأداة لتحسين التماثل الغذائي، فلقد عطلت الإنزيمات المركزية المُرتبطة بالنمو كمُتغيّر التغذية، وجعلت البكتيريا أكثر اعتمادًا على مسارات التغذية الذاتية “autotrophic growth”.
كما قاموا بإنماء الخلايا الموجودة في chemostat -وهو عبارة عن نظام، فيه تُحفظ المُكونات الكيميائية في مُستويات تحت السيطرة، خاصة أثناء عملية زراعة الكائنات الدقيقة- وإمدادها بإمداد محدود من سكر الزيلوز، وهو مصدر للكربون العضوي، وذلك لتثبيط الطرق مُتغيّرة التغذية، فكان الإمداد الأولي للزيلوز لمدة 300 يوم تقريبًا ضروريًا لدعم تكاثُر الخلايا الكافي لبدء التطور، كما يحتوي chemostat أيضًا على الكثير من الفورمات و10% من ثاني أكسيد الكربون.
وفي هذه البيئة، هناك ميزة انتقائية كبيرة لذاتية التغذية autotrophs، والتي تُنتج المواد الحيوية من ثاني أكسيد الكربون كمصدر وحيد للكربون، مُقارنة بمُتغيّرة التغذية heterotrophs التي تعتمد على الزيلوز كمصدر للكربون للنمو، وباستخدام تقنية isotopic labeling -وهي تجربة استخدام نظير مُشع وتتبعه خلال التفاعُل-، أكَّد الباحثون أنَّ البكتيريا المعزولة المُتطورة كانت ذاتية التغذية حقًا، أي أنَّ ثاني أكسيد الكربون وليس الزيلوز أو أي مركب عضوي آخر يدعم نمو الخلية.
وبمعرفة تسلسُل الجينوم وبلازميدات الخلية -وهي بنية وراثية تتكاثر بشكل مُستقل عن الكروموسومات، وعادة ما تكون عبارة عن حبل دائري صغير من الحمض النووي DNA، موجود في السيتوبلازم في البكتيريا أو الأوليات- ذاتية التغذية المُتطورة، اكتشف الباحثون أنه تمَّ الحصول على ما لا يقل عن 11 طفرة من خلال العملية التطورية في chemostat، مجموعة واحدة من الطفرات أثرت على الجينات التي تُشفر الإنزيمات المُرتبطة بدورة تثبيت الكربون، وتألفت الفئة الثانية من الطفرات الموجودة في الجينات المُلاحظ أنها تحورت في تجارب adaptive laboratory evolution السابقة، مما يُشير إلى أنها ليست بالضرورة خاصة بمسارات التغذية الذاتية، وتتكون الفئة الثالثة من طفرات في الجينات دون دور معروف.
كما صرح غليزر: “تصف الدراسة ولأول مرة، تحوّلًا ناجحًا في نمط نمو البكتيريا، إنَّ تعليم بكتيريا الأمعاء القيام بحِيَّل تشتهر بها النباتات كان بمَثابة لقطة حقيقية طويلة”.
“عندما بدأنا العملية التطورية المُوجَّهة، لم يكن لدينا أدنى فكرة عن فُرصنا في النجاح، ولم تكن هناك سوابق لتوجيه أو اقتراح جدوى مثل هذا التحوّل المُتطرِف.
بالإضافة لذلك، نرى في النهاية عدد صغير نسبيًا من التغيُّرات الجينية اللازمة لجعل هذا الانتقال مُفاجئًا”.
ويقول المؤلفون أنَّ أحد قيود الدراسة الرئيسية، هو أنَّ استهلاك البكتيريا للفورمات يُحرر ثاني أكسيد الكربون أكثر من المُستهلك خلال تثبيت الكربون، بالإضافة إلى ذلك، هناك الحاجة إلى مزيد من البحوث قبل أنْ يكون من المُمكن مُناقشة قابلية التوسُّع في الاستخدام الصناعي.
وفي المستقبل، سوف يهدف الباحثون إلى توفير الطاقة من خلال الكهرباء المُتجددة لمُعالجة مشكلة إطلاق ثاني أكسيد الكربون، وتحديد ما إذا كانت الظروف الجوية المُحيطة يُمكن أنْ تدعم التغذية الذاتية، ومُحاولة تضييق مُعظم الطفرات ذات الصلة بالنمو الذاتي.
كتابة: مصطفى احمد مصطفى
مراجعة: ميار محسن
تحرير: اسماء مالك
تصميم: احمد محمد