تاريخ الهندسة الوراثية
هل تخيّلت أنك قد تسير في طريقك يومًا فتجد “سوبر مان” يطير من فوق رأسك؟
أو أن تذهب لعملك فتجد طفلًا صغيرًا لا يتعدى عمره العشرة أعوام هو مديرك المباشر في العمل مثلًا؟ نظرًا لذكائه وقدراته العقلية التي فاقت جميع المرشحين لذلك المنصب!
أو أن تذهب للتسوق فتجد أحجامًا ضخمة وأشكالًا غريبة للخضروات والفاكهة؟
تُرَى هل أُصيب العالم بالجنون حينها أم أن الهندسة الوراثية قد تدخلت بشكل رهيب في جميع نواحي حياتنا؟ بالطبع الخيار الثاني أكثر إقناعًا.
إذًا ما هي الهندسة الوراثية؟
“الهندسة الوراثية” عبارة عن مصطلح علمي يُطلق على التقنيات التي يُجرى من خلالها التعامل مع الجينات في الحمض النووي “DNA” سواء كان لإنسان أو لحيوان أو لنبات أو حتى لبكتيريا بغرض إنتاج كائنات حيّة تتمتّع بصفات مرغوبة، كأن تكون أقل عُرضة للأمراض أو أكثر قدرة على تحمل ظروف بيئيّة محددة.
يُطلق على هذا العلم أيضًا اسم “التعديل الوراثي أو الجيني” حيث يدرس الجينات وتأثيرها داخل الخلايا الحية ويدرس جميع الجوانب المتعلقة بها، للعمل عليها بشكل أكبر من أجل معالجتها للأفضل وبالتالي يمكننا إنتاج جينات محسنة ومعدلة وراثيًا نتداولها تجاريًا، ويمكن أن تؤدي أيضًا إلى اكتشافات جديدة حيث يسمى الكائن الحي الناتج عن الهندسة الوراثية “كائن معدل وراثيًا”.
كيف تطور هذا العلم وما تاريخ نشأته؟
الهندسة الوراثية علم تطبيقي زاخر به العديد من الخبايا والغرائب التي تستحق أن نقف إيزاءها لنرويها بشيء من التفصيل، لذا سنأخذك في رحلة قصيرة حول تاريخ الهندسة الوراثية.
بدأت قصته قديمًا جدًا أكثر مما قد تصورنا، حيث تمكن البشر من تعديل جينات الكائنات الحيّة منذ آلاف السنين دون أن تكون لديهم معرفة بماهية الجين أو الحمض النّووي وذلك من خلال الاصطفاء الصّناعي أو الانتخاب الانتقائي، وتتم هذه العملية عن طريق انتقاء ذكور وإناث الكائنات الحيّة التي تتمتّع بصفات مرغوبة والسماح لها بالتزاوج لإنتاج نسل يحمل هذه الصفات، وقد تمكنوا عن طريق الاستخدام المتكرر لهذه الممارسة على مدى أجيال عديدة من إحداث تغييرات جينية واضحة في بعض أنواع الكائنات الحيّة.
فعلى سبيل المثال: منذ حوالي 6000-10000 سنة، بدأ المزارعون من أمريكا الوسطى بالتغييرات الجذرية في نوع من العشب يسمى “teosinte” ليصبح ما يُعرَف الآن باسم “الذرة”. من خلال اختيار النباتات ونموها بناءً على سمات نادرة جدًا ومرغوبة ناتجة عن طفرات تحدث بشكل طبيعي، تم الحصول على نبات بساق واحدة ولُب داخلي كبير (قولحة) يحتوي على العشرات أو حتى مئات البذور ومغطاة بالقشور الكبيرة “husks” مما أدى إلى زراعة الذرة بشكلها التي هي عليه اليوم.
مَن أطلق مفهوم “الهندسة الوراثية” لأول مرة إذًا؟ ومتى كانت البداية الفعلية لهذا العلم بالضبط؟
من الجدير بالذِّكر أن الروائي الأمريكي جاك ويليامسون فَعَل، حيث ذكر هذا المصطلح في رواية الخيال العلمي (جزيرة التنين) التي نُشرت عام 1951.
بينما كانت البداية الفعلية لهذا العلم عام 1953 عند اكتشاف الشكل المزدوج للحمض النووي “DNA” على يد واتسون وكريك.
الستينيات 1960s:
تلى هذا الحدث العملاق -اكتشاف واتسون وكريك- العديد من الاكتشافات العلمية التي تدور حول جزيء الحمض النووي “DNA”.
السبعينيات 1970s:
الهندسة الوراثية تنطلق في اكتشافاتها بشكل غير متوقع، فكان من أهم أحداثها ما يلي:
صناعة أول جزيئات الحمض النووي المؤتلف أو مُعاد التركيب “rDNA” بواسطة بول بيرغ عام 1972، وهو عبارة عن حمض نووي صناعي يتم تشكيله من خلال الجمع بين الحمض النووي “DNA” من كائنات مختلفة من خلال عملية تُعرف ب”إعادة التركيب الجيني”.
الثمانينات 1980s:
تميزت فترة الثمانينات بتقديم اللقاحات والعلاج للبشر، حيث إن أبرز أحداثها إنتاج أول حيوان مُعدل وراثيًا، بعدها الحدث الأهم على الإطلاق وهو إنتاج الإنسولين الصناعي من البكتيريا لعلاج مرض السكري سنة 1982، وذلك باستخدام التقنية السابقة -الحمض النووي المؤتلف-.
التسعينات 1990s:
الاستنساخ والكائنات المعدلة وراثيًا كان ما يميز تلك الفترة، ففيها تم وضع مباديء تقنية كريسبر وهو حدث ضخم للغاية يحتاج مقالًا منفردًا للحديث عنه، كما تم استنساخ أنثى الخروف دوللي وكانت أشهر قصة عن علم الوراثة قد عرفناها، وتطورت وتحسنت بعض المحاصيل مثل الطماطم التي يتم طرحها لفترات طويلة في الأسواق ولا تفسد بسهولة.
بداية القرن الحادي والعشرين 2000s:
تم رسم خريطة الجينوم البشري، كما اعتُمد أول علاج دوائي يستهدف الجينات، وتم بيع حيوان “Glo-fish” كحيوان أليف تم تعديله وراثيًا وهو سمكة تتوهج حرفيًا.
وتوالت الإنجازات بعدها في استخدام الهندسة الوراثية لعلاج أمراض مستعصية لدى البشر حتى عام 2017 تمت الموافقة على أول علاج “CART” للسرطان بالأخص سرطان الدم الليمفاوي الحاد.
وفي النهاية أود أن أوضح أن لعلم الوراثة أوجه أخرى كثيرة لم نُحِط بها بعد، فكما ذكرنا هو علم زاخر وحافل بالغرائب والمفاجآت، ففي 2018 تمت الموافقة على أولى التجارب السريرية لتقنية كريسبر لأحد الأمراض وهذا شىء رائع بالفعل، فتقنية كريسبر في حد ذاتها ثورة ستفتح لنا آفاقًا وطرقًا جديدة للعلاج، أو ربما تنتج أطفالًا ذوي قدرات خاصة خارقة كما قد ذكرنا في بداية المقال، ولكن هنالك حسابات أخرى؛ فالجرائم الأخلاقية أيضًا تزداد كلما زاد تقدم مثل تلك التقنيات المتقدمة.
فما هي كريسبر ولما قد يضع العِلم صاحبه في مُحاكمة قضائية أو أخلاقية وهو في الأساس هدفه المساهمة في حياة أفضل سواء في زيادة الصفات الجيدة أو إبادة نظيرتها الضارة؟ هذا ما سنتطرق إليه في مقالات أخرى ذات الصلة.
كتابة: نرمين خالد
مراجعة: مصطفى احمد مصطفى
تحرير: ميرنا عزوز
تصميم: عاصم عبد المجيد