الكوليرا، معركة الحياة والموت
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْدًا يتدفّقُ موْتورًا
هبطَ الوادي المرِحَ الوضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونًا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
في كوخ الفلاّحة في البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
(من قصيدة سكن الليل لنازك الملائكة)
ما الذي يخطُر ببالك عندما تسمع كلمة “كوليرا”؟
إذا كنت من جيل الأربعينات، فسوف تتذكر الخوف والرعب الذي كان يخيم على مصر، وستتذكر آلاف العائلات الذين فقدوا أحبّائهم. أغلب الظّن يا صديقي أنّك لست من هذا الجيل، لذا لك في أيامنا هذه خير صورة لِمَا كان عليه الحال وقتها. في ١٩٤٧ كتبت الشاعرة نازك الملائكة قصيدتها المشهورة “سكن الليل”. حاولت فيها التعبير عن وقع أرجُل الخيل التي تجرّ عربات الموتى من ضحايا المرض في الريف المصري حين داهم وباء الكوليرا مصر.
وكان سبب دخول الكوليرا إلى مصر؛ هو بعض الجنود الإنجليز الذين أتوا من الهند إلى مصر، وصادف أنّهم كانوا مصابين بالكوليرا. ولعلّك شاهدت معي فيلم “اليوم السادس” المقتبس عن رواية “أندريه شديد”، وهي تحمل نفس الاسم بالمناسبة. وهي رواية تحكى عن وباء الكوليرا الذي ضرب مصر في الأربعينيات 1947. ومن هنا قرّر يوسف شاهين سنة ١٩٨٦ أن يُخرج هذه الرواية كفيلم، وسماه على نفس اسم الرواية، ولعبت بطولته الفنانة داليدا.
ويحكي الفيلم قصة صديقة جدة حسن الطفل الصغير، والتي تؤمن أنه لا زال هناك أمل وسيُشفى حسن إن شاء الله في ستة أيام، وتبدأ في تخبئته من أعيُن رجال الدولة؛ حتى لا يأخذوه بعيدًا عنها في مُخيّمات الحَجر الصحي. الرواية أو الفيلم يدونان رحلة الكوليرا في مصر، ولقد شهد العالم سبع مراحل من انتشار وباء الكوليرا على مدى نحو 150 عام.
-
الهند، هناك بدأت الحكاية!
انتشرت الكوليرا خلال القرن التاسع عشر في جميع أنحاء العالم انطلاقًا من مستودعها الأصلي في دلتا نهر الغانج بالهند. واندلعت بعد ذلك ست جوائح من المرض حصدت أرواح الملايين من البشر عبر القارات كلها. أما الجائحة الحالية -السابعة- فقد اندلعت بجنوب آسيا في عام 1961، ووصلت إلى أفريقيا في عام 1971، ومن ثم إلى الأمريكيتين في عام 1991. وإلى الآن تتواجد الكوليرا في العديد من البلدان. وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية فإنه في كل عام هناك 1.3 إلى 4 مليون حالة إصابة بالكوليرا، و21000 إلى 143000 حالة وفاة في جميع أنحاء العالم بسبب العدوى.
-
ما هي الكوليرا؟
عندما هاجمت الكوليرا لندن عام ١٨٤٩ مُخلِّفة حالات إصابة ووفيات كثيرة، كان يعتقد الأطباء أنّ المسبب لهذا الوباء هو الأبخرة السامة في الجو الناتجة من تحلّل المواد العضوية. إلى أن ظهر واحد من الآباء المؤسسين لعلم الأوبئة الحديث “د. جون سنو” في الصورة، مفترضًا أنّ المياه الملوّثة هي السبب! ولأجل أن يثبت هذه الفرضيّة، رسم “سنو” خريطة لمنازل الذين لقوا حتفهم في الوباء، ووجد أنّ أغلب الحالات تتجمّع حول نقطة معينة في الرُكن الجنوبي الغربي من تقاطع شارع (برودوك) و(ليكسينغتون).
فحص “سنو” عيّنات مياه من الآبار والأنابيب المغذيّة لهذه المنطقة تحت المجهر، وأكّد وجود بكتيريا غير معروفة في عيّنات شارع “برودوك”، وعلى الرغم من شك السلطات المحلية في صحة كلام “سنو”، إلا أنه أزال عنوة مقبض المضخّة الموجودة بشارع “برودوك”، وسُرعان ما خفّت حدّة انتشار الكوليرا. وبهذه التجربة وعمل “سنو” الدؤوب، أثبت أنّ المياه الملوّثة هي السبب في تفشّي الكوليرا. تبع ذلك اكتشاف العالم الألماني”د. روبرت كوخ” الحاصل على نوبل سنة ١٩٠٥ لبكتريا الكوليرا الضمية (Vibrio cholerae) المسبّبة للكوليرا في الإسكندرية عام 1883. وتأكّد اكتشاف “كوخ” عام 1884 في “كلكتا” بالهند، عندما ثبت وجود الميكروب في كل حالات الكوليرا التي تم فحصها هناك.
الكوليرا عبارة عن عدوى معويّة حادّة تنشأ بسبب تناول طعام أو ماء ملوث ببكتيريا الكوليرا الضمية (Vibrio Cholerae) بنوعيها O1 وO139. أحيانًا تكون العدوى خفيفة أو بدون أعراض، ولكن يمكن أن تكون شديدة جدًا أحيانًا أخرى، وتقتلك خلال ساعات. فقد يُعاني واحدٌ من كل 10 أشخاص (10%) من المصابين بالكوليرا إسهالًا حادًا يتميز بأنه مائي أو كما يسميه الأطباء (Rice water diarrhea)، كما أنه سيُعاني من التقيّؤ وتشنّجات السّاق.
يؤدي فقدان سوائل الجسم بسرعة إلى الجفاف واختلال في نسب الأيونات في الجسم كالصوديوم والكلوريد بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، وهذا الجفاف يُدخِل الجسم في انخفاض سريع في الضغط ومن ثم صدمة وبدون علاج، يمكن أن تحدُث الوفاة في غضون ساعات قليلة. كما أن قِصَر فترة حضانة الكوليرا -التي تتراوح بين ساعتين وخمسة أيام- هو الذي عزز من إمكانية الانتشار السريع للمرض؛ ليصبح بعدها وباء لا يَرحم!
-
كيف نُصاب بالكوليرا؟
يُصاب الشخص بالكوليرا عن طريق شُرب الماء أو تناول الطعام الملوّث ببكتيريا الكوليرا. في حالة الوباء، يكون مصدر التلوّث عادة براز شخص مصاب يلوّث الماء و/أو الطعام. ويمكن للمرض أن ينتشر بسرعة في المناطق التي لا يتم فيها معالجة مياه الصرف الصحي ومياه الشرب بشكلٍ كافٍ. من غير المحتمل أن ينتشر المرض مباشرة من شخص إلى آخر؛ لذلك لا يشكل الاتصال العَرَضي مع الشخص المصاب خطرًا للإصابة بالمرض.
-
كيف نُشخّص المرض؟
بالإضافة إلى الأعراض التي ذكرناها سابقًا، يجب على الأطباء أخذ عيّنة من البراز وإرسالها إلى المُختبَر للبحث عن بكتيريا الكوليرا الضمية.
عالجه بسرعة، أو سيقتلك خلال ساعات قليلة!
يُمكن علاج الكوليرا ببساطة وبنجاح عن طريق الاستبدال الفوري للسوائل والأملاح المفقودة بسبب الإسهال. يُمكن مُعالجة المرضى بمحلول الإماهة الفموي (ORS)، وهو مزيج معبّأ مسبقًا من السُّكر والأملاح؛ ليتم مزجه مع لتر واحد من الماء وشربه بكميات كبيرة. يُستخدم هذا الحل في جميع أنحاء العالم لعلاج الإسهال. تتطلّب الحالات الشديدة أيضًا حقن السوائل عن طريق الوريد. سيموت تقريبًا نصف الأشخاص المصابين بالكوليرا بدون الإماهة. ينخفض معدّل الوفيّات إلى أقل من واحد بالمائة مع استخدام العلاج. تُقلل المُضادات الحيوية من شدة المرض، ولكنها ليست بنفس أهمية علاج الجفاف المسبب للموت.
إذا كنت تعتقد أنك أو أحد أفراد عائلتك مُصاب بالكوليرا، فاطلب الرعاية الطبية على الفور. يمكن أن يكون الجفاف سريعًا؛ لذا من الضروري استبدال السوائل التي فُقدت. إذا كان لديك محلول الإماهة الفموي (ORS)، فابدأ بإعطائه للشخص المريض على الفور إلى أن يصل إلى المستشفى، بإمكانك أن تنقذ حياته بهذا التصرف! إذا كان لديك رضيع مصاب بالإسهال المائي، فاستمر في الرضاعة الطبيعية.
-
الوقاية خيرٌ من العلاج
عندما تأخذ احتياطاتك البسيطة بالمناسبة، فإنّ خطر إصابتك بالكوليرا في المناطق المُنتشرة بها سيكون مُنخفضًا. فما هي هذه الاحتياطات البسيطة؟
1- اشرب فقط المياه المعبّأة في زجاجات أو المغلية أو المُنقاة كيميائيًا. لتطهير المياه الخاصة بك، قم بغليها لمدة دقيقة واحدة أو قم بتصفية الماء وإضافة قرص اليود لكل لتر من الماء.
2- تجنب مياه الصنبور.
3- اغسل يديك كثيرًا بالصابون والماء النظيف.
4- في حالة عدم توفر الماء والصابون، استخدم منظفًا يدويًا يحتوي على الكحول (بنسبة 60% على الأقل).
5- لا تأكل اللحوم والمأكولات البحرية النيئة أو غير المطبوخة جيدًا، أو الفواكه والخضروات النيئة أو غير المطبوخة جيدًا؛ يمكن أن يكونوا مُلوَّثين بالبكتيريا.
وافقت إدارة الغِذاء والدواء الأمريكية (FDA) على لقاح للكوليرا يؤخذ عن طريق الفم، للبالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 64 عامًا، والذين يسافرون إلى مناطق انتشار الكوليرا، يسمى Vaxchora®. هناك ثلاثة لقاحات أخرى تؤخذ عن طريق الفم أيضًا، وهم Dukoral وShanChol وEuvichol-Plus\Euvichol.
ولكن كما تعلمون يا رفاق أنّ الوقاية خيرٌ من العلاج. فالوقاية من الكوليرا شيء مهم جدًا. بل إنّ اللقاحات ليست بديلًا عن الاحتياطات الخاصة بالأغذية والمياه التي ذكرناها.
ما زال هناك الكثير يهدّدنا ويهدّد عالمنا، والعُلماء في معاملهم يسعون جاهدين لاكتشاف أدوية ولقاحات جديدة تحمينا بفضل الله. وهناك صوتٌ يهمس في آذاننا جميعًا أن “اطمئنوا فما زال هناك أمل، والعلاج قادم لا محالة”