الطب

الجدري

منذ زمن بعيد، ضرب ناقوس الموت العالم عِدة مرات، وذلك من خلال أوبئة انتشرت تقريبًا في كل بُقعة من بِقاع العالم، وأثناء رحلة انتشارها، سقط ملايين البشر في شِباك الموت المحتوم.

أحد تلك الأوبئة هو بلا شك مرض الجدري Smallpox. وللتبسيط سوف أضرب لك مثالًا عن عدد المتوفين إثر ذلك المرض: إذا جمعنا عدد المتوفين والمصابين أيضًا في الحرب العالمية الأولى وكذلك الثانية معًا، تخيل أننا لن نحصل سوى تقريبًا على خُمس عدد المتوفين بسبب وباء الجدري، حيث قُدِّر عدد الوفيات بسبب ذلك الوباء إلى 300-500 مليون حالة وفاة. وإذا علمت أن الجدري يقتل تقريبًا 30% من المصابين به، فكم كان عدد المصابين الكُليّ!

رحلة الجدري حول العالم

وباء الجدري ليس مجرد وباء عمره عام أو اثنان أو حتى ثلاثة، بل يصل عمره إلى العديد والعديد من القرون.

إن أصل الجدري غير معروف، ولكن يُعتقد أن بداية الحكاية كانت في الصين وعند القدماء المصريين، وذلك استنادًا إلى طفح جلدي شبيه بالجدري عُثر عليه في ثلاث مومياوات في القرن الثالث قبل الميلاد. كما ظهر أول وصف مكتوب لمرض يشبه الجدري بشكل واضح في الصين في القرن الرابع الميلادي.

وأيضًا ظهرت الأوصاف المكتوبة القديمة في الهند في القرن السابع الميلادي، وفي آسيا الصغرى -تركيا حاليًا- في القرن العاشر الميلادي.

يمكننا القول إن الانتشار العالمي للجدري ارتبط بنمو وانتشار الحضارات، واستكشاف وتوسيع طرق التجارة على مر العديد من القرون:

1- في القرن الثالث قبل الميلاد

تواجد الجدري في الإمبراطورية المصرية، والدليل على ذلك وجود آثار لبثور الجدري على رأس مومياء الفرعون رمسيس الخامس عمرها 3000 عام.

آثار بثور الجدري على رأس مومياء الفرعون رمسيس الخامس

2- القرن الرابع الميلادي

كما ذكرنا في السابق أنه في تلك الفترة ظهر وصف مكتوب لمرض يشبه الجدري بشكل واضح في الصين.

وفي تلك الفترة ناشد الناس الإله “يو هوا لونج” (Yo Hoa Long) -إله الجدري عند الصينيين- أن يحميهم من الجدري.

صورة الإله يو هوا لونج

3- القرن السادس الميلادي

دخول الجدري لليابان بسبب زيادة التجارة مع الصين وكوريا.

ففي اليابان، أقامت العائلات التي أُصيبت بالجدري أضرحة “لشيطان الجدري” في منازلها على أمل أن يَرضى الشيطان عنهم ويشفيهم.

كما انتشرت أسطورة شائعة في جميع أنحاء العالم أن الضوء الأحمر سيعالج الجدري.

رسم لامرأة تهزم شيطان الجدري بارتداء اللون الأحمر”

4- القرن السابع الميلادي

انتشر الجدري في شمال إفريقيا وإسبانيا والبرتغال بسبب التوسع العربي -الفتوحات الإسلامية-.

كما انتشر في الهند، فكان الناس هناك في شمال الهند يعبدون إلهة الجدري الهندية “شيتالا ماتا” (Shitala Mata)، واُعتُبِرت تلك الإلهة هي المُسبب وهي أيضًا المُعالِج لمرض الجدري.

الإلهة شيتالا ماتا المعبودة في شمال الهند

5- القرن العاشر الميلادي

الجدري يدق أبواب آسيا الصغرى -تركيا حاليًا-.

ويُعتقد أن الجدري وصل إلى تلك المنطقة من آسيا عبر طرق التجارة الرئيسية مثل طريق الحرير.

تُبين الخريطة الإمبراطورية العثمانية في عام 1801، والتي امتدت بعد ذلك من تركيا (الأناضول) إلى اليونان والمجر وبلغاريا ورومانيا وشمال إفريقيا وأجزاء من الشرق الأوسط.

6- القرن الحادي عشر

ساهمت الحملات الصليبية أيضًا في انتشار الجدري في أوروبا، مع انتقال المسيحيين الأوروبيين من وإلى الشرق الأوسط خلال القرنين المقبلين.

7- القرن الثالث عشر: الجدري يتوغل شمالًا.

لقد أدى  التوسع السكاني وتكرار السفر إلى انتشار ذلك الوباء في وسط وشمال أوروبا والتي لم تتأثر سابقًا حتى أيسلندا.

الإله شابونا

8- القرن الخامس عشر

1) توغل الجدري كثيرًا في أوروبا، فقد انتشر في العديد من البلدان الأوروبية.

2) دخل المرض لغرب إفريقيا، وذلك يرجع إلى البعثات البرتغالية إلى الساحل الغربي لإفريقيا وكذلك طرق التجارة الجديدة مع الأجزاء الشرقية من إفريقيا.

كذلك كان السكان يعتقدون أن مرض الجدري ناتج عن غضب الإله شابونا -إله الجدري في غرب إفريقيا- وكان المسيطر على عبادة ذلك الإله كهنة معينين مسئولين عن أضرحة الإله، وكان الناس يعتقدون أن الكهنة أنفسهم قادرين على التسبب في تفشي مرض الجدري.

9- القرن السادس عشر

1) انتشار الجدري في منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى والجنوبية بسبب الاستعمار الأوروبي وتجارة الرقيق الإفريقية.

2) يُعتقد أن الجدري أحد العوامل التي أدت إلى سقوط إمبراطورية الأزتيك والأنكا.

10- القرن السابع عشر

انتشر الجدري في أمريكا الشمالية بسبب الاستعمار الأوروبي.

11- القرن العشرين

بالتحديد في سنة 1980 أعلنت جمعية الصحة العالمية الثالثة والثلاثون العالم خاليًا من الجدري.

ماهية المرض

بعد كل ما سبق تبين أن وباء الجدري كان عبارة عن استعمار بكل ما تعنيه الكلمة فقد استعمر معظم  العالم، لذلك كان من الواجب أن نتعرف ماهيته، ماهية ذلك الشيء الذي أصاب الناس حينها بالرعب. الجدري هو مرض شديد العدوى ينتقل عبر الهواء (Airborne disease) يسببه فيروس يسمي فيروس الجدري “Variola” من عائلة “Orthopoxvirus”، ويعد واحدًا من أكبر الفيروسات حجمًا.

ويتسبب هذا المرض في قتل ما يصل إلى 30% ممن أصيبوا به عبر التاريخ، ولكن حتى الناجون منه لم يحالفهم الحظ حتى، فقد عاشوا مع تشوهات في الجسم، وفي بعض الحالات أصابهم العمى.

كيف ينتشر المرض

مبدأيًا، ينتشر الجدري عبر البشر فقط. ليس لدي العلماء أي دليل على أنه يمكن أن ينتشر عن طريق الحشرات أو الحيوانات.

وينتشر هذا المرض عن طريق السعال أو العطس، أو حتى عن طريق قشور الجروح والسوائل الموجودة في تقرحات الشخص المصاب، فكل ما سبق يحتوي على الفيروس، لذلك يمكن أن ينتشر من خلالها ومن خلال الأشياء الملوثة بها من ملابس وغيرها.

أعراض الجدري

يمر المصاب بمرض الجدري بعدة مراحل مع تقدم المرض بداخله، وكل مرحلة لها علاماتها:

1- فترة الحضانة “Incubation period”:

فترة الحضانة تمثل الفترة بين الإصابة بالمرض وظهور أعراضه على المصاب.

وتستمر فترة حضانة الجدري في أي مكان من 19:7 يومًا (على الرغم من أن المتوسط 14:10 يومًا). وفي أثناء تلك الفترة -فترة الحضانة- لا يكون هناك أي عدوى.

2- الأعراض الأولية “Initial symptoms”

تستمر من 4:2 أيام وتشمل:

1) ارتفاعًا في درجة الحرارة.

2) وآلامًا في الرأس والجسم.

3) والتقيؤ في بعض الأحيان.

4) كذلك عدم قدرتهم على ممارسة أنشطتهم العادية.

وتكون تلك الفترة مُعدية في بعض الأحيان، لكن أقل عدوى من المرحلتين القادمتين.

3- الطفح المبكر “Early rash”:

تستمر تلك الفترة حوالي 4 أيام وتشمل مراحلها:

1) بدء ظهور الطفح الجلدي على هيئة بقع حمراء صغيرة على اللسان والفم.

2) تتحول تلك البقع إلى تقرحات تفتح وتنشر كميات كبيرة من الفيروس في الفم والحلق -ولا يزال المصاب يعاني من الحمى-.

3) وبمجرد أن تفتح تقرحات الفم، يظهر طفح جلدي على بداية من الوجه ثم ينتشر في الذراعين والساقين ثم إلى اليدين والقدمين، كما أنه عادة ما ينتشر في جميع أنحاء الجسم في غضون 24 ساعةً.

4) تبدأ الحمى في الانخفاض، وقد يبدأ المصاب في الشعور بتحسن عند ظهور هذا الطفح الجلدي.

5) في اليوم الرابع، تمتلئ تقرحات الجسم بسائل سميك غير شفاف.

6) وبمجرد أن تمتلئ تقرحات الجسم بالسوائل، قد ترتفع الحمى مرة أخرى وتبقى مرتفعة حتى تتشكل قشور على القروح.

كذلك تعتبر هذه المرحلة مُعديةً.

4- ظهور البثور والقشور “Pustular rash and scabs”

تستمر هذه المرحلة حوالي 10 أيام. وفيها تتحول القروح إلى بثور (مرتفعة بشكل حاد، وعادة ما تكون مستديرة وثابتة عند اللمس)، وبعد حوالي 5 أيام تبدأ القشور في التكون، وبحلول نهاية الأسبوع الثاني تتلاشى جميع القرح.

وهذه المرحلة أيضًا مُعدية.

5- سقوط القشور “Scabs fall off”

تستمر هذه المرحلة حوالي 6 أيام. وفيها تسقط القشور تاركة آثارًا على الجلد، وبعد 3 أسابيع من ظهور الطفح الجلدي، تسقط معظم القشور.

وتعتبر تلك المرحلة كذلك مُعدية.

6- لا قشور “No scabs”

بعد 4 أسابيع من الطفح الجلدي، تسقط جميع القشور، وحينها لا يصبح الشخص مُعديًا.

معركة البشرية ضد الجدري

كانت هناك طريقة بدائية للتصدي لذلك الوباء، اسمها “Variolation” مشتقة من اسم الفيروس نفسه، وتتمثل هذه الطريقة في الحصول على بعض القيح من المصابين وتعريض الناس غير المصابين له عن طريق خدش أذرعهم أو استنشاقه عبر الأنف، وعادًة ما كانت تظهر نفس الأعراض عليهم ولكن كانت احتماليات الوفاة بينهم أقل من هؤلاء الذين لم يتحصنوا بتلك الطريقة.

ودخلت تلك الطريقة إنجلترا عن طريق السيدة ماري وورتلي مونتاغيو زوجة السفير البريطاني في تركيا في القرن السادس عشر بالتحديد في سنة 1721، واعتمدتها أوروبا في القرن الثامن عشر، ومع نهاية القرن أصبحت مقبولة في جميع أنحاء العالم للتصدي إلى خطر الجدري.

ولكن لا يبقى شيء على حاله، كل شيء تغير في عام 1796، عندما جاء الطبيب الإنجليزي “إدوارد جينر” بأول لقاح ضد الجدري، وكل شيء حينها أتى بالصدفة، عندما لاحظ الطبيب إدوارد حلابة البقر المدعوة “سارة نيلمس” أنها أصبحت مُحصنة ضد الجدري ولم تظهر عليها أعراضه بعد أن جرب عليها طريقة Variolation وذلك لأنها كانت مصابة من قبل بمرض جدري البقر(Cowpox) وهو يشبه Smallpox ولكن أقل خطورة منه.

وحينها أدرك إدوارد أنه إذا أخذ بعض المواد من جلد سارة وحقنها في جسم شخص آخر سوف يصاب هذا الشخص بمرض جدري البقر ولكنه سوف يكسبه مناعة في المستقبل من الجدري وذلك لأنه كما قلنا فالاثنان متشابهان.

وبالفعل هذا ما حصل بالضبط، فقد أخذ الطبيب إدوارد بعضًا من المواد الموجودة في قرحة الجدري -جدري البقر- من على يد سارة وحقنها في ذراع ابن البستاني الخاص به البالغ من العمر 9 أعوام، وبعد مرور عدة أشهر كشف إدوارد عليه فلم يلاحظ أي تفشٍ لمرض الجدري، ومن هنا بدأ في تطوير لقاحه، وبعد فترة استُبدل فيروس جدري البقر بفيروس آخر مشابه “فيروس الوقس”.

إدوارد جينر

حسنًا دعنا لا نخلط الأمور مع بعضها، لا يوجد علاج للأشخاص المصابين بالجدري، ولكن يوجد لقاح لحماية الناس من الإصابة به.

فإذا حصلت على اللقاح قبل إصابتك بالمرض، سيحميك اللقاح منه.

وإذا حصلت عليه في غضون ثلاثة أيام من الإصابة به قد يحميك، حتى إذا بقيت مريضًا فقد تكون أقل مرضًا من أشخاص آخرين غير مُحَصنين.

وإذا حصلت عليه في غضون 7:4 أيام من الإصابة به، قد يعطيك بعض الحماية.

ولكن بمجرد تطور الطفح الجلدي، فلا يستطيع اللقاح أن يفعل لك شيئًا.

كما أن اللقاح لا يحمى الناس للأبد، فهو يحمى صاحبه لمدة 5:3 سنوات وبعد ذلك تقل قدرته على الحماية، وإذا كنت في حاجة إلى زيادة المدة، فسوف تحتاج إلى تطعيم آخر.

كان مشوارًا طويلًا قطعته البشرية للتخلص من ذلك الوباء، كسبت من خلاله معرفة كبيرة في كيفية التعامل والتصرف والاحتياطات اللازم اتخاذها مع مثل تلك الأوبئة العالمية.

ملصق لمنظمة الصحة العالمية يُحيي استئصال الجدري في 1979، والذي أقرته جمعية الصحة العالمية الثالثة والثلاثون في 8 مايو 1980

المصادر 1 2 3

كتابة: مصطفى احمد مصطفى

تحرير: محمد لطفى

تصميم: عائشة فاروق

اظهر المزيد

مصطفى أحمد مصطفى

مسئول قسم الأحياء والكيمياء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى