الطب

الطاعون

إنه يا سادة الجحيم علي الأرض، ذلك الكابوس الذي رسمه الرسام الفلمنكي بيتر بروغل في منتصف القرن السادس عشر (انتصار الموت) ويعكس الاضطراب الاجتماعي والإرهاب الذي أعقب الطاعون المدمر لأوروبا في العصور الوسطي. حتي أن البعض يعتبروه آفة الماضي.

ذلك هو الطاعون (Plague)، واحد من أكثر الأمراض فتكًا في تاريخ البشرية، لدرجة أنه يأتي في المرتبة الثانية بعد الجدري – والذي سبق الحديث عنه في مقال آخر -.

الطاعون يحجز مكانه في التاريخ

أحداث تاريخية معروفة بشكل خاص قد حدثت قبل اكتشاف السبب الحقيقي وراء ذلك الوباء.

طاعون جستنيان “The Plague of Justinian”: والذي بدأ في عام 542 ميلادي، وسمي بهذا الاسم نسبًة إلي الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول.

وقتل هذا الوباء وفقًا للمؤرخين القدماء ما يصل إلي 10000 شخص يوميًا في القسطنطينية (اسطنبول الحديثة، تركيا).

أيضًا تشير التقديرات الحديثة، إلي أن نصف سكان أوروبا – ما يقرب من 100 مليون حالة وفاة – قد لاقوا مصرعهم قبل أن يهدأ الطاعون في العقد 700 (700s).

ويمكننا القول أن أكثر تفشي لوباء الطاعون كان عندما سُمي “بالموت الأسود”، وهو جائحة امتد لعدة قرون واجتاح آسيا وأوروبا.

وكان يُعتقد أنه بدأ في الصين في عام 1334، وانتشر علي طول الطرق التجارية ووصل إلي أوروبا عبر موانئ صقلية في أواخر الأربعينات من القرن الرابع عشر. قتل الطاعون ما يقدر بنحو 25 مليون شخص، ما يقرب من ثلث سكان القارة.

لم يتم اكتشاف سبب الطاعون حتي أحدث تفشي عالمي، والذي بدأ في الصين عام 1860 ولم ينتهي رسميًا حتي عام 1959. وتسبب في حوالي 10 ملايين حالة وفاة.

وتم جلب الطاعون إلي أمريكا الشمالية في أوائل القرن العشرين عن طريق السفن، وانتشر بعد ذلك إلي الثدييات الصغيرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

وللأسف، كان ارتفاع مُعدل الوفيات خلال تلك الأوبئة يعني أن الموتي غالبًا ما يتم دفنهم في مقابر جماعية محفورة بسرعة.

ماهية المرض

الطاعون عبارة عن عدوي بكتيرية موجودة بشكل رئيسي في القوارض والبراغيث المتطفلة عليها، وينتقل الطاعون إلي البشر عبر عدة طرق سنتطرق إليها بعض قليل.

علي مدي مئات السنين، ظل سبب تفشي الطاعون مبهمًا ومُحاطًا بالخرافات. لكن الملاحظات والتقدم الحاد في المجاهر ساعد في النهاية كما يقولون في الأفلام علي كشف الجاني الحقيقي.

ففي عام 1894، اكتشف الكسندر يرسين البكتيريا المتسببة في وباء الطاعون وكانت “Yersinia pestis”، وهي عبارة عن بكتيريا قوية علي شكل قضيب.

صورة ميكروسكوبية للبكتيريا

تعمل تلك البكتيريا علي تعطيل الجهاز المناعي للمضيف عن طريق حقن السموم في خلايا الدفاع مثل الخلايا البلعمية microphages تلك المُكلفة بالكشف عن العدوي البكتيرية، وبمجرد التخلص من تلك الخلايا، يمكن أن تتكاثر البكتيريا دون عوائق.

دعونا نأتي الآن للكائنات المضيفة لتلك البكتيريا، حيث تعمل العديد من الثدييات الصغيرة كمضيفات لها، بما في ذلك الجرذان والفئران والسناجب وكلاب البراري والأرانب.

ولنا مع الفئران قصة أخري، فكان يُعتقد منذ فترة طويلة أنها هي المسبب والناقل الرئيسي لتفشي الطاعون، وذلك بسبب ارتباطها الوثيق بالبشر في المناطق الحضارية، ولكن العلماء اكتشفوا أن البرغوث الذي يعيش علي الفئران “Xenopsylla cheopis” هو الذي يسبب في المقام الأول الحالات البشرية من الطاعون.

فعندما تموت القوارض المصابة بالطاعون، تقفذ البراغيث إلي مضيف جديد، وتَعُضَهم وتنقل إليهم البكتيريا Yersinia pestis المأخوذة من القوارض المصابة، كما يحدث الانتقال أيضًا عن طريق التقاط الأنسجة أو الدم من حيوان مصاب بالطاعون، أو استنشاق القطرات المنطلقة من شخص مصاب بالمرض.

ويعتقد العلماء أن بكتيريا الطاعون تنتشر بمعدلات منخفضة بين مجموعات معينة من القوارض دون التسبب في الموت المفرط لتلك القوارض، وأن تلك الحيوانات المصابة والبراغيث بمثابة خزانات طويلة الأجل للبكتيريا، وتسمي هذه الدورة بدورة الإنزوتيك Enzootic cycle، ويجب عليك أن تلاحظ أن معظمها غير مُكتشف لأنها لا تُنتج تفشيًا.

ومن حين لآخر، تصاب أنواع أخري بالعدوي، مما يتسبب في تفشي المرض بين الحيوانات وتسمي تلك الدورة بالدورة الوبائية Epizootic cycle، وأثناءها يواجه البشر خطرًا أكبر للإصابة ببكتيريا الطاعون.

أشكال الطاعون وأعراض كلًا منها

ينقسم الطاعون إلي ثلاثة أنواع أو أشكال رئيسية وفقًا للجزء المصاب بالجسم، وتختلف العلامات والأعراض باختلاف نوع الطاعون.

  1. الطاعون الدبلي Bubonic plague:

وهو الشكل الأكثر شيوعًا للمرض. عادة ما يكون هذا الشكل نتيجة لدغة برغوث مصاب، وتتكاثر البكتيريا في العقد الليمفاوية الأقرب إلي حيث تدخل البكتيريا إلي جسم الانسان، لذلك سُمي باسم تورم العقد اللمفية – أورام التهابية في العقد الليمفاوية – والتي تتطور عادًة في الأسبوع الأول بعد الإصابة وتصبح قُرح الجلد سوداء، لذلك لُقِبت أثناء الأوبئة باسم الموت الأسود.

وإذا لم يتم علاج المريض بالمضادات الحيوية المناسبة، يمكن أن تنتشر البكتيريا إلي أجزاء أخري من الجسم.

تلك الأورام الإلتهابية تتصف بعدة صفات:

1- قد توجد في منطقة الأربية أو الأبط أو الرقبة.

2- وتكون في حجم بيضة الدجاج تقريبًا.

3- تسبب ألمًا عند اللمس وصلبة.

قد يشمل علامات وأعراض أخري كالآتي:

1- ظهور مفاجئ لحُمّي وقشعريرة.

2- الصداع.

3- التعب أو التوعك.

4- آلامًا في العضلات.

  1. طاعون إنتان الدم Septicemic plague:

يحدث هذا الشكل عندما تتكاثر بكتيريا الطاعون في مجري الدم. وينتج هذا الشكل من لدغات البراغيث المصابة أو من التعامل مع حيوان مصاب. ويمكن أن يحدث كعرض أولي للطاعون، أو قد يتطور من الطاعون الدبلي الغير معالج.

وتتضمن العلامات والأعراض التالية:

1- حُمّي وقشعريرة.

2- الضعف الشديد.

3- ألم في البطن وإسهال وقيء.

4- نزيف من الفم، الأنف أو المستقيم، أو حتي تحت الجلد.

5- الصَّدْمَة.

6- اسوداد وموت الأنسجة في الأطراف، والأكثر شيوعًا في أصابع اليدين والقدمين والأنف.

  1. الطاعون الرئوي Pneumonic plague:

الأشد ندرة والأكثر خطورة في ذات الوقت، قد يتطور من الشكلين السابقين، أو عن طريق استنشاق الرذاذ المُعدي، يؤثر علي الرئتين ويمكن أن ينتشر من شخص لأخر عبر الرذاذ المتطايرمن السعال. وقد تبدأ العلامات والأعراض خلال ساعات قليلة من بدء العدوي، وقد تشمل ما يلي:

1- السعال، والمخاط المصحوب بالدم (البصاق).

2- صعوبة في التنفس.

3- الغثيان والقيء.

4- حُمَّي شديدة.

5- الصداع.

6- الضَّعف.

7- ألم الصدر

ويتطور هذا الشكل بسرعة، وقد يسبب فشل في الجهاز التنفسي وصدمة في خلال يومين من بدء العدوي. كما يحتاج المصاب بهذا الشكل إلي العلاج بالمضادات الحيوية خلال يوم بعد أول ظهور للعلامات والأعراض، وإلا العدوي قد تكون قاتلة.

كيف تنتقل بكتيريا الطاعون إلي البشر

  1. لدغات البراغيث:

غالبًا ما تنتقل بكتيريا الطاعون عن طريق لدغة برغوث مصاب. موت العديد من القوارض حاملة الطاعون يتسبب في جعل تلك البراغيث الحاملة للبكتيريا من الفئران تبحث عن مصدر أخر للتغذي علي دمه، فيتعرض الأشخاص والحيوانات التي تزور الأماكن التي ماتت فيها هذه القوارض مؤخرًا لخطر الإصابة بلدغات البراغيث.

وقد تجلب الكلاب والقطط أيضًا البراغيث الحاملة للطاعون إلي المنزل. وقد يؤدي لدغات تلك البراغيث إلي الإصابة بالطاعون الدبلي أو الإنتاني كما ذكرنا سابقًا.

  1. ملامسة السوائل أو الأنسجة الملوثة:

قد يصاب البشر بالطاعون عند ملامسة أنسجة أو سوائل جسم الحيوان المصاب به. غالبًا ما يؤدي هذا الفعل إلي الإصابة بالطاعون الدبلي أو الإنتاني أيضًا.

  1. القطرات المُعدية:

عادة ما يتطلب الاتصال المباشر والوثيق مع الشخص المصاب بالطاعون الرئوي، فعندما يصاب شخص بالطاعون الرئوي، يسعل قطرات في الهواء تحتوي علي بكتيريا الطاعون، وإذا تم استنشاقها من قِبل أي أحد سوف يصاب بالطاعون الرئوي أيضًا، وتلك هي الطريقة الوحيدة للإصابة بالطاعون الرئوي بين الناس.

الطاعون في المجتمع الحديث

لا يزال الطاعون موجودًا في أجزاء مختلفة من العالم، حيث ظهر بشكل متقطع وتبعته أنشطة منظمة الصحة العالمية ومراكز السيطرة علي الأمراض والوقاية منها. وظهرت مظم الحالات في أفريقيا منذ التسعينات.

وبين عامي 2004 و2014، أبلغت جمهورية الكنغو الديموقراطية عن غالبية حالات الطاعون في جميع أنحاء العالم، مع 4630 حالة إصابة بشرية، و349 حالة وفاة.

ويربط العلماء انتشار الطاعون في جمهورية الكنغو الديموقراطية بالنظام البيئي هناك. وفي الآونة الأخيرة، اندلع الطاعون في مدغشقر في عام 2017، مما تسبب في أكثر من 2300 حالة.

وفي السنوات الأخيرة، كانت الولايات المتحدة والصين والهند وفيتنام ومنغوليا ممن أكدوا حالات الإصابة بالطاعون البشري. فمثلًا الولايات المتحدة، تظهر 7 حالات إصابة بالطاعون في المتوسط كل عام.

واليوم، ينجو معظم الناس من الطاعون من خلال التشخيص السريع والعلاج بالمضادات الحيوية. كذلك تعمل الممارسات الصحيحة للصرف الصحي ومكافحة الآفات علي تقليل الاتصال بالبراغيث والقوارض المصابة للمساعدة في منع وباء الطاعون.

المصادر 1 2 3

كتابة: مصطفى احمد مصطفى

تحرير: سعاد حسن

تصميم: عائشة فاروق

 

اظهر المزيد

مصطفى أحمد مصطفى

مسئول قسم الأحياء والكيمياء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى