مثل معظم جوانب السلوك الإنساني، فإن التباين في استخدام أحد اليدين، أو كما تُعرف بظاهرة التفضيل “Handedness” -الميل لاستخدام اليد اليمنى أو اليسرى بشكل طبيعي أكثر من الأخرى-، وهي عبارة عن سمة مُعقدة، تبدو وأنها تتأثر بعوامل متعددة، بما في ذلك علم الوراثة والبيئة وحتى الصدفة!
تراه كله في الجينات:
كان يُعتقد منذ البداية أن جينًا واحدًا يسيطر على تلك الظاهرة، ومع ذلك، تشير الدراسات الحديثة إلى أن جينات متعددة ربما تصل إلى 40 جينًا تساهم في تلك الصفة، ومن المحتمل أن يكون لكل من هذه الجينات تأثيرًا ضعيفًا من تلقاء نفسه، ولكنها تلعب معًا دورًا مهمًا في تحديد أيًا من يَديك ستستخدم!
وتشير الدراسات إلى أن بعض هذه الجينات على الأقل تساعد في تحديد التباين الكلي بين اليسار واليمين في الجسم “Right-Left Asymmetry” بدءًا من المراحل الأولى من التطور.
وحتى الآن، لم يحدد الباحثون سوى عدد قليل من تلك الجينات العديدة التي يُعتقد أنها تؤثر على الظاهرة، فعلى سبيل المثال:
1. ارتبط جين “PCSK6” بزيادة احتمالية تعرض مستخدمي اليد اليمني لمرض انفصام الشخصية “Schizophrenia”.
2. كما ارتبط جين آخر “LRRTM1” بزيادة فرصة تعرض مستخدمي اليد اليسرى لمرض عُسر القراءة “Dyslexia” -حالة تسبب صعوبة في القراءة والكتابة- وهذا المرض ناقشه وتناوله فيلم “Taare Zammen Par” بطولة المُبدع عامر خان.
حسنًا، ليس من الواضح ما إذا كان أي من هذه الجينات مرتبطة بالتفضيل من غير حدوث تلك الأمراض.
دعونا لا ننسى البيئة:
ليست الجينات فقط التي لها دور في ذلك، حيث تشير الدراسات إلى أن هناك عوامل أخرى تساهم أيضًا في تلك الظاهرة؛ كالبيئة قبل الولادة مثلًا، والتأثيرات الثقافية قد تلعب دورًا، ومن الممكن أن يكون التفضيل يرجع للتباين العشوائي بين الأفراد.
ومن الغريب في الأمر أن ميزة التفضيل تلك ليس لها نمط بسيط في الميراث، فالأباء الذين يستخدمون اليد اليسرى يكون أطفالهم أكثر عُرضة لأن يكونوا من مستتخدمي اليد اليسرى، مقارنة بالأطفال الذين أباءهم من مستخدمي اليد اليمنى.
ومع ذلك، نظرًا لأن الفرصة الكلية لكي تصبح من مستخدي اليد اليسرى ضئيلة نسبيًا، فإن معظم الأطفال الذين أباؤهم من مستخدمي اليد اليسري يكونوا من مستخدمي اليد اليمنى.
بمعنى آخر، إذا كان أحد والديك من مستخدمي اليد اليسرى، وتحمل أنت الآخر الجينات التي تجعلك من مستخدميها، ولكن وُلدت في بيئة الأغلب فيها من مستخدمي اليد اليمنى، فإن احتمال أن تكون من مستخدمي اليد اليمنى أكبر بكثير من أن تكون من مستخدمي اليد الأخرى.
إن تفضيل أحد اليدين عن الأخرى يبدأ في التطور قبل الولادة، يصبح واضحًا بشكل متزايد في مرحلة الطفولة المبكرة، ويميل أن يكون ثابتًا طوال الحياة. ومع ذلك، لا نعرف الكثير عن أساسه البيولوجي، فربما ينشأ تفضيل أحد اليدين عن الأخرى كجزأ من عملية عدم تناسق اليسار الأيمن “Right-Left Asymmetry” تلك التي تُميز الجانبين الأيمن والأيسر من الجسم، وبشكل أكثر تحديدًا، يبدو أن تلك الظاهرة مرتبطة بالاختلافات بين نصفي الدماغ الأيسر والأيمن. فالنصف الأيمن من الدماغ يتحكم في الجزء الأيسر من الجسم والعكس صحيح.
عودة مرة أخرى للجينات:
في دراسة نُشرت في مجلة “Brain” لعام 2019، ولأول مرة، وجد العلماء 4 مواقع على الحمض النووي DNA الخاص بك، والتي قد تحدد ما إذا كنت ستكتب بيدك اليسرى أم لا؟
ووفقًا للتحليل الجيني لنحو 400000 شخص في المملكة المتحدة، من بينهم أكثر من 38000 شخص يستخدمون اليد اليسرى، وجد أنه من بين أربعة مواقع جينية، هناك ثلاثة مواقع يرتبطون ببروتينات تشارك في نمو الدماغ وبنيته.
لماذا يتمنون أن يكونوا من أصحاب اليد اليسرى؟
أظهرت الدراسة السابقة أيضًا -طبقًا لكلام أكيرا ويبرج “Akira Wiberg” الذي أجرى الدراسة- أن مناطق اللغة الموجودة على جانبي الدماغ الأيمن والأيسر تتواصل مع بعضها البعض بطريقة أكثر تنسيقًا في مستخدمي اليد اليسرى.
كما صرَّحت جوينل داوود “Gwenaëlle Douaud” واحدة من مؤلفي الدراسة: “نحن بحاجة إلى تحديد إذا ما كان التنسيق العالي لمناطق اللغة بين جانبي الدماغ لمستخدمي اليد اليسرى يمنحهم في الواقع ميزة في القدرة اللفظية، ولهذا نحتاج لدراسة عميقة مُفصلة في القدرة اللفظية”.
الأربع مراكز والأمراض:
وجدت الدراسة أيضًا أن هناك علاقة بين المناطق الجينية التي تشارك في جعل الشخص يستخدم يده اليسرى “Left-Handedness” وتقليل خطر الإصابة بمرض الشلل الرعاش “Parkinson’s disease” وذلك بدرجة طفيفة جدًا، وعلى النقيض من ذلك، بالنسبة لمرض انفصام الشخصية “Schizophrenia”، حيث أنه يزيد خطر الإصابة به بدرجة أيضًا طفيفة جدًا.
تخيل معي أن دراسة هذه الروابط الوراثية تساعد في فهم كيف تطورت هذه الأمراض.
الخاتمة:
لقد عرف العلماء أن الجينات تلعب دورًا في تحديد إذا ما كنت ستكتب باليد اليسرى أم باليمنى، وتُمثل ميزة التفضل ميلًا لأن تكون أكثر راحة ومهارة باستخدام يد واحدة بدلًا من يَدين لمهامٍ مثل الكتابة ورمي الكرة.
وعلى الرغم من أن النسبة المئوية تختلف باختلاف الثقافة، إلا أن 90:85% من الناس في الدول الغربية هم من مستخدمي اليد اليمنى، و15:10% من مستخدمي اليد اليسرى.
لكن السؤال هنا، لماذا صفة استخدام اليد اليمنى هي التي تسود؟ أو بمعنى آخر، لماذا عدد مستخدمي اليد اليسرى قليل جدًا؟ لماذا توجد تلك الصفة -صفة تفضيل اليد اليسرى- بالأساس؟
كتابة: مصطفى أحمد مصطفى
تحرير: إسراء وصفي
