الفلسفة

لماذا نرى ما نريد أن نراه؟

العين خدَّاعة لا يجب علينا الوثوق بها، حيث يُمكن أن تخلق مثيلًا غير جدي على الإطلاق من حياتنا الخاصة عندما نُصدق تلك الأشياء التي نراها وتعتبرها حقيقية، فكر في الوقت عندما ترى أعيننا ما تتمنى وتُريد أن تراه، مثلًا كالوقت الذي تُفكر في شخص ما في شارع مُزدحم أو تبحث عن حصى على شكل قلب على الشاطيء.

تلك الظاهرة تُدعى “motivated perception” أو الدوافع المُحفِزة أو المُحرِكة، تم اكتشافها منذ عقود في أبحاث دراسية تخص علم النفس، حيث تُوضح أنَّ العالم في خيالاتنا ليس له علاقة بما هو عليه في الواقع الذي نعيشه، فغالبًا ما تكون دوافعنا أكثر مرونة وانحيازية وانتقائية.

حتى رغباتنا يُمكنها أنْ تُؤثر على طريقة رؤيتنا للمعلومات والأمور، وفي مثال بسيط: أُجريت تجربة عملية تضم مجموعة من الباحثين كان عليهم أنْ يقرأوا المكتوب على الورقة؛ حرف “B” أو رقم “13” وكان على المُشاركين في التجربة توضيح الإجابة واختيار الأكثر استحسانًا على الأقل استحسانًا، وفي دراسة قديمة في عام 1945 أُجريت على مجموعة من الطُلاب يُشاهدون نفس المُباراة لكرة القدم بين الفريقين، كانت تقارير الأخطاء التي تمَّ ارتكابها من الفريقين مُختلفة وكذلك الخلافات.

وفي توضيح وتفسير لتلك الظاهرة، أوضحت الأبحاث والدراسات الحديثة التي أجراها مجموعة من الباحثين في جامعة ستانفورد والتي تمَّ اعتمادها ونشرها في مجلة “Human Nature Behavior” أنَّ هناك تَحيُزات مُعينة يتم تحفيزها، كالتَحيُز الحسي الذي يُؤثر على دوافعنا، تأثير الـ Top-Down، والتَحيُز الاستجابي الذي يجعلنا نرى ما نُريد ونتمنى أنْ نراه، ويقترح آليات الحوسبة العصبية الكامنة التي تُوجِّه هذه الأحكام.

الدراسة كانت عبارة عن مجموعة من الصور تحتوي على خليط من الوجوه (سواء رجال أو نساء) والمشاهد (سواء مشاهد خارجية أو داخلية)، وعلى المُشاركين تحديد الغالب على الصورة سواء وجه أو مشهد خلال أربع ثوان، ومن ثَمَّ الفائز تُحدَد له قيمة مالية مُعيّنة، ثُمَّ في التحدي التالي تقوم اللجنة بتقييم تحفيز المُشاركين عن طريق تحديد نوع الصورة وجه أو مشهد، مع العلم بأنَّ الفوز أو الخسارة سوف يزيد أو ينقص من قيمة المال على حسب.

أوضحت نتائج تلك التجربة أنَّ إجابات المُشاركين تتماشى بشكل كبير مع رغباتهم، حتى الصور الغامضة كانوا يُسمونها كما يرونها حتى لو كانت خاطئة، وهذا يدل على أنَّ العين ترى ما تُريد وتتمنى أنْ تراه، وهذا ينعكس علي الإدراك الحسي والاستجابي للمُشاركين، إنهم لا يميلون فقط إلى الإبلاغ عن رؤية ما كانوا يرغبون في رؤيته، ولكنهم كانوا أكثر عرضة لرؤية ما يرغبون في رؤيته بالفعل.

كيف يتم الإدراك الحسي؟
تبدأ العين برؤية الصورة ومن ثَمَّ تنتقل إلى المركز البصري في المخ، وهنا تبدأ النظريات: إحداها تُوضح أنَّ الصورة تنتقل بين جزئين جزء أمامي ventral stream مسؤول عن تسجيل ما تراه العين، وجزء خلفي dorsal stream مسؤول عن تسجيل مُحيط الرؤية، في الجزء الأمامي يُوجد خلايا عصبية مُخصَصة لرؤية الوجوه وخلايا أكثر تخصُصًا لرؤية المَشاهد، يُمكن عندئذ إصدار حُكم إدراكي من خلال مُقارنة نشاط الخلايا العصبية في مناطق انتقائية للوجه أو مناطق انتقائية للمشهد، ولذلك يجب على المنطقة التي تُظهِر نشاطًا أكبر أنْ “تفوز” ويجب اختيار الفئة التي تُمثلها هذه الخلايا العصبية.

إنَّ لدينا رغبات وأهداف لها تأثير لا جدال فيه على حياتنا كما تُوضح الأبحاث، فهذه التأثيرات لا تُشوش فقط على إدراكنا وعواطفنا وسلوكنا؛ ولكن أيضًا -بشكل حرفي- على كيفية رؤيتنا للعالم.

وفقًا للمُؤلف الرئيسي يوان تشانغ ليونغ، فإنَّ دراستهم الأخيرة لها تَداعيان مُهمان: الأول له علاقة بتمثيلنا للعالم، في مُعظم الحالات نود أنْ يكون لديّنا رؤية موضوعية للواقع من أجل إصدار أحكام دقيقة تستند إلى أدلة موضوعية، يقول لو لونج: “إذا كُنا على دراية بكيفية تلوين الرغبات لتصوراتنا، فيُمكننا اتخاذ خطوات نحو التصحيح العقلي للتَحيُز”.

يتعلق التَداعي الثاني بالطريقة التي نتعامل بها مع الآخرين، خاصة أولئك الذين لا يُشاركوننا رغباتنا ومُعتقداتنا، فمع العلم بأنَّه يُمكن للآخرين رؤية الأشياء بطريقة مُختلفة عنا، وأنَّه ليس بالضرورة أن يكون أي منا أقرب إلى الواقع الموضوعي، فسنكون قادرين بشكل أفضل على التَعاطُف مع كيفية تصرفهم وشعورهم. نظرة ثاقبة -تم استحضارها من تجارب في علم الأعصاب وعلم النفس- من شأنها أنْ تُرجِح التماشي مع الحكمة جديًا.

 

المصدر

 

كتابة: محمود وحيد

مراجعة: مصطفى طنطاوي

تحرير: أسماء مالك

تصميم: أمنية عبد الفتاح

اظهر المزيد

ميار محمد

المدير التنفيذي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى