التاريخ والأدبالفلسفة

ابن رشد والفلسفة

قال ابن الأبار عن ابن رشد: “تأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يصرفها في ترفيع حال، ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصةً، ومنافع أهل الأندلس عامةً، وأنه كان أشد الناس تواضعًا وأخفضهم جناحًا”.

من قرطبة بالأندلس حيث منارة العلم والعلماء، حيث لا تكاد تُذكر أثينا وروما والإسكندرية وبغداد، حتى ذُكرت قرطبة بينهن، ظهر لنا الفيلسوف والفقيه والطبيب والقاضي المسلم “ابن رشد”، لذا عزيزي القارئ، هيا بنا، لنتعرف تفصيليًا على ابن رشد.

من هو ابن رشد؟

هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، كان أبوه قاضيًا، وكان جده قاضي القضاة بالأندلس، نشأ في قرطبة في أسرة مرموقة من الفقهاء والقضاة، وتوفي في مراكش، أجاد العلوم الإسلامية  إجادة تامة، لقى تعليمه في مجال الطب، وأصبح قاضيًا بإشبيلية قبل قرطبة وبعد وفاة ابن طفيل، خلفه ابن رشد كطبيب خاص للخليفة أبو يعقوب يوسف عام 1182م، وابنه أبو يوسف يعقوب عام 1184م.

يُقال في وقت ما بين عامي 1153م و1169م، قام ابن طفيلي بتقديم ابن رشد لأبي يعقوب، الذي كان بدوره متحمسًا للفلسفة، فأفزعه ابن رشد بسؤال ما إذا كانت السماء قد خلقت أم لا؛ فأجاب الخليفة، وبعد محادثة دامت لمدة طويلة بينهما، قام أبو يعقوب بإرسال هدايا ثمينة لابن رشد، بعد تلك المحادثة بوقت قصير. 

فلسفة ابن رشد

يُقال الأصح فلسفتا ابن رشد، وليست فلسفة واحدة، حيث توجد فلسفة ابن رشد كما فهمها الأوربيون وفلسفة كما كتبها هو، ولكن دعني عزيزي القارئ أخبرك بأن فلسفة ابن رشد كما فهمها الأوربيون، اعتمدوا فيها على:

1- شروحات أرسطو وتلخيصاته في فهم فلسفة ابن رشد.

2- الشروحات والتلخيصات مترجَمة إلى اللغة اللاتينية أو العبرية، وكما نعلم أن لا ترجمة تخلو من اختلاف.

والأمر الثالث عزيزي هو أن فلسفة ابن رشد ذاع صيتها بين الأوروبيين في فترة حُرّم فيها الانشغال بالعلوم التي تخالف أصول الدين، وبين كلا الفلسفتين مواضع اختلاف تسمح بتفسيرات أخرى في بعض الأحيان.

ابن رشد وأرسطو

أثارت تعليقات ابن رشد على فلسفة أرسطو الناس لقرون عدة إلى يومنا هذا، وبعقله العبقري المحلل ترك بصمته، حيث نقد فلاسفة أمثال ثيميستيوس، وإسكندر أفروديسياس وفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وابن باجة.

وبين عامي 1169م، و1195م، كتب ابن رشد تعليقات على معظم أعمال أرسطو مثل الأورغانون (The Organon)، العقل (De anima)، الفيزياء (Physica)، الميتافيزيقيا (Metaphysica)، أجزاء الطبيعة (De partibus animalium)، الشعر (Poetica) وأخلاق نيكوماشيان (Nicomachean Ethics)، وكتب ملخصات طويلة ومتوسطة، وتم دمج جميع أعمال ابن رشد في النسخة اللاتينية من أعمال أرسطو الكاملة، وتوجد في نُسخ ذات الأصول العربية أو العبرية أو كليهما، وتلك الترجمات تعمل بدلًا من الأصول العربية المفقودة كالتعليقات المهمة على الأخلاق النيقوماخية لأرسطو وعلى جمهورية أفلاطون.

دفاع ابن رشد عن الفلسفة

إن من أولى أعمال ابن رشد هو كتاب الطب العام، الذي كُتب بين 1162م و1169م وكذلك القليل من كتاباته القانونية، ولم يحتفظ بأي من كتاباته اللاهوتية، ولكن أكثر ما أثار الجدل هو كتاباته الدينية والفلسفية، حيث أن أهم كتاباته هو ثلاث رسائل جدلية دينية فلسفية، وتم تأليفها عامي 1179م  و1180م.

وراهن ابن رشد على أنه فقط الميتافيزيقي الذي يستخدم برهانًا معينًا (القياس المنطقي) هو الذي له القدرة وملزم بتفسير العقائد الواردة في الشريعة النبوية وليس المسلمون من العلماء الجداليين الذين يعتمدون على الحجج الجدلية، وحيث أن هدف الفلسفة هو تحديد المعنى الداخلي الحقيقي والسعي للحقيقية؛ فطبق ابن رشد حجج أرسطو الثلاثة ألا وهي (الحجة، الإقناع، البرهنة)، وكرس حياته للدفاع عن الفلسفة ضد هجوم اتباع الغزالي الموجه بالخصوص لابن سينا والفارابي.

وبالرغم من التكهنات في عصر ابن تومرت نتيجة للنشاط الإصلاحي والذي يهدف إلى استعادة التوحيد، تم انتزاع السلطة من حكم المرابطين وتأسست سلالة الموحدين البربرية، التي قام ابن رشد بالخدمة في الفقه وغيره في ظلها، وتحول التطبيق العملي للشريعة الإسلامية من خلال الاستئناف للسلطة السابقة إلى دراسة مبادئها بدقة وإحياء القرار القانوني على أساس تعاليم ابن تومرت، وربما تكون سياسة ابن تومرت في إرشاد الجماهير الجاهلة بالمعنى الواضح للشريعة، هي التي شجعت الفلاسفة أكثر فأكثر، لتطبيق الحجج التوضيحية لتفسير التعاليم النظرية من الشريعة، ولكن استمر دفاع ابن رشد في ظل سلطة الفقهاء واللاهوتيين المضادين للفلسفة. 

سقوط ابن رشد

وبشكل واضح، دعم ابن رشد أبي يعقوب، حيث قضي له حياته في شرح مؤلفات أفلاطون، وفي ظل هذا النضال الدائم، فقد سقط ابن رشد حينما طُرد من منصبه الرفيع إلى لوسينا 1195م؛ لإرضاء علماء الدين، وقد دعم ابن رشد بشكل صريح أبي يعقوب، الذي قضى له حياته في شرح مؤلفات أفلاطون.

ففي النهاية، ليس من النادر في التاريخ الإسلامي أن تتعارض الفلسفة مع بعض من علماء الشريعة واضطهاد للفلاسفة وحرق كتبهم، ولكن عزيزي القارئ، لنعلم أن هناك أسبابًا خفية في نكبة أو سقوط ابن رشد ليست متعلقة فقط بإرضاء علماء الدين، فهناك أسباب سياسية، ولنعلم أن ابن رشد لم يكن أول شارح لكُتب الأقدمين، فقد سبقه ابن باجة، وإن لم يتوسع مثلما توسع ابن رشد، ولكن ابن باجة كان يحسن مصاحبة السلطان، وابن رشد لم يحسن هذا، فنُكب ابن رشد ولم يمنعه ذلك من شرح الكتب، وفي حادثة أن ابن رشد ذكر المنصور في كتاب الحيوان بملك البربر، وأنه كان على علاقة وثيقة بأخيه الذي يخشى منافسته، وعدة أمور أخرى كفيلة بأن تثير غضب المنصور، ولكن عفا عنه فيما بعد.

المصادر: 1

كتابة: آية ياسر

مراجعة: عبدالرحمن ناجح

تدقيق لغوي: إسراء وصفي

اظهر المزيد

آية ياسر

كاتبة بقسم التاريخ وعلم النفس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى