لماذا لا تطبع الدول الكثير من النقود؟
أحد أكثر الأسئلة التي خطرت على ذهني منذ أن كنت طفلًا.. لماذا لا تقوم الدولة بطباعة المزيد من الأموال وتسدد ديون حكوماتها، تساعد الفقراء، تعفي الناس من الضرائب ويصبح الجميع سعداء؟
وإذا كانت هناك إجابة مباشرة ومختصرة لهذا السؤال، فهي أن قيام أي حكومة بهذه الخطوة يهدد بتدمير قطاعها الاقتصادي، وتُغرق بلادها في مستنقع التضخم المفرط الذي بإمكانه تدمير الاقتصاد حرفيًا.
النقود مثل أي سلعة أخرى تُطبق عليها قوانين الاقتصاد الأساسية وقواعد الطلب والعرض، بمعنى أن أسعار السلع والخدمات تُحدَد عن طريق آلية العرض والطلب، فكلما زاد العرض لسلعة معينة (بفرض أن الطلب ثابت) سيقل سعر السلعة، لأن الكمية الموجودة في السوق زائدة عن الحاجة، وتغطي طلبات الأفراد. هناك فائض أكثر من الحاجة؛ مما يدفع المنتجين إلى تقليل أسعار منتجاتهم كاستراتيجية للتسويق، وطريقة لتحفيز الأفراد لشراء كميات أكبر والعكس أيضًا صحيح، كلما قل العرض لسلعة معينة، ارتفع سعرها؛ لأن الكمية المعروضة قليلة ولا تُلبي احتياجات الأفراد. لذلك يلجأ الأفراد الراغبين بهذه السلعة أن يدفعوا مبالغ أكبر من السعر السابق للحصول على السلع قبل نفاذ الكمية.
على سبيل المثال: برأيك ماذا سيحدث لو افترضنا أن الحكومة قررت اعتبارًا من الشهر القادم منح كل مواطن 100 ألف جنيه شهريًا! بعضنا سيعتقد بشكل خاطئ أن المواطن أصبح الآن أكثر ثراءً، ولكن هل هذا هو الواقع؟ هل أصبح فعلًا أكثر ثراءً؟
عندما يحصل كل مواطن على 100 ألف جنيه شهريًا، فإن التأثير المباشر لتلك الخطوة هو ارتفاع أسعار كل شيء بشكل متناسب، وهذا ببساطة يرجع إلى انخفاض القوة الشرائية للعملة؛ بسبب ارتفاع المعروض منها.
لنفترض مثلًا أن المرتب الشهري للمواطن يبلغ 4 آلاف جنيهًا، ويستطيع بهذا المبلغ شراء جهازي محمول، تكلفة الواحد منهما ألفي جنيهًا. ولكن إذا ارتفع دخله إلى 104 آلاف جنيهًا، وارتفع سعر الجهاز إلى 52 ألف جنيهًا، فكم جهاز يستطيع شراءه بهذا الدخل؟ بلا شك هما جهازين فقط، أي أنه لا يوجد تغير حقيقي في الثروة، التغير الوحيد هو ارتفاع الأسعار.
هذا السيناريو حدث بالفعل وبشكل فظيع لدولة زيمبابوي سنة 2008، إذ عادل السِنت الأمريكي الواحد 500 مليار دولار زيمبابوي، الأمر الذي جعل الحكومة في ذلك البلد توقف التعامل بالعملة المحلية وتستبدلها بالدولار الأمريكي أو الراند الجنوب إفريقي.
وشبيه أيضًا بما حدث مع الجنية المصري خلال الخمس سنوات الأخيرة، فقد كان الدولار الواحد يعادل خمسة جنيهات قبل 2011، وبسبب تمويل عجز الموازنة العامة بالاقتراض، وبعد تفاقم الديون، قامت الحكومة بمزيد من طباعة الجنيه المصري دون غطاء، إلى أن أصبح الدولار يساوي أكثر من 17 جنيهًا.
بعبارة أخرى، الثروة لا يتم إنشاؤها عن طريق طباعة النقود، لأن النقود ما هي إلا ممثل للثروات الموجودة، وبالتالي فإن طباعة المزيد من النقود دون زيادة الثروة التي تمثلها ستتسبب في أن كل وحدة من هذه النقود ستمثل شريحة أصغر من الثروة التي تم تقسيمها إلى شرائح أكثر.
وهذا ببساطة ما يمثل الفرق بين الثروة والنقود.
على أي أساس تطبع الدولة المال؟
بمعنى كيف تحدد الدولة كم يجب أن تطبع وتضخ من مال؟ قديمًا، كان يفترض على المصرف المركزي (وهو مصرف تابع للدولة يدير شؤون العملة)، أن يحتفظ لديه برصيد كافي من الذهب، وبالمقابل يطبع عملات تساوي قيمتها تمامًا قيمة هذا الذهب.
كان المصرف المركزي مُلتزم بأن يسلم أي شخص ذهب مقابل العملات التي يعطيها إياه، ومع الوقت، لم يعد هذا النظام ساريًا.
واليوم تحتفظ البنوك المركزية ليس فقط بسبائك الذهب، بل أيضًا بعملات أجنبية وسندات (ديون)، وغيرها من الأمور التي تُشكّل غطاءً لأي إصدار عملات.
من هنا، تحدد الدولة كم تطبع من مال بحيث تحافظ على قيمة أو قوة شرائية، أو سعر صرف معين، ولا تطبع أكثر ولا أقل منه.
هذا كله ما عدا طباعة أموال جديدة تدخل مكان العملات التالفة، وليس لها أثر تضخمي طالما بنفس المقدار تمامًا. أي كل سنة لو أتلفت بقيمة مليار جنيه، فإنه يتم طباعة عملات بقيمة مليار جنيه.
وبعد هذا التحليل المبسط، إذا كنت تعتقد أن طباعة الأموال ستحل المشكلة فأنت مخطئ، لأن ذلك سيعمق الأزمة، ويؤدي لانهيار الاقتصاد، حيث أن الطباعة غير المدروسة للعملة وضخها بدون ضوابط سيُفقدها قيمتها السوقية، ليتحول غالبية الشعب لمليونيرات وحتى مليارديرات، ولكنهم عاجزين عن شراء شيء للأسعار الفلكية الخاصة بالمنتجات والخدمات والسلع.
كتابة: أسامة صابر
مراجعة: أحمد مغربي
تدقيق لغوي: إسراء وصفي