الخلايا العصبية التي تعين الذكريات في الدماغ البشري
أحد الجوانب المهمة للذاكرة البشرية هي قدرتنا على استحضار لحظات محددة من مجموعة واسعة من التجارب التي حدثت في أي مكان معين. على سبيل المثال، إذا طُلب منك التوصية بمسار سياحي لمدينة قمت بزيارتها عدة مرات، يُمكّنك عقلك بطريقة أو بأخرى من تذكر ذكريات معينة وتمييزها عن رحلاتك المختلفة لتقديم إجابة.
أظهرت الدراسات أن الذاكرة التصريحية -وهي نوع من الذاكرة التي يمكن أن تتذكرها بوعي مثل: عنوان منزلك أو اسم والدتك- تعتمد على بنية الفص الصدغي في المخ، بما في ذلك الحصين والقشرة المخية الأنفية.
وأثبت الاكتشاف الحائز على جائزة نوبل أن الخلايا العصبية في “خلايا مكان” و”خلايا الشبكة” تنشط لتمثيل مواقع محددة في البيئة أثناء التنقل (مثل: GPS)، هذه المناطق أيضًا مهمة للإدراك المكاني. ومع ذلك، لم يكن من الواضح ما إذا كانت “الخريطة المكانية” في المخ أو ما إذا كانت تتعلق بذاكرة الشخص للأحداث في تلك المواقع، وكيف يمكّننا النشاط العصبي في هذه المناطق من استهداف ذاكرة معينة لاستعادتها بين التجارب ذات الصلة.
وجد فريق بقيادة مهندسين عصبيين في “كلية الهندسة بجامعة كولومبيا Columbia Engineering” أول دليل على أن الخلايا العصبية الفردية في الدماغ البشري تستهدف ذكريات معينة أثناء الاستعادة. درسوا التسجيلات في مرضى الجراحة العصبية الذين زُرعت أقطاب كهربائية في أدمغتهم ودرسوا كيف تتوافق إشارات دماغ المرضى مع سلوكهم أثناء أداء مهمة ذاكرة موقع الواقع الافتراضي (VR). وحدد الباحثون “خلايا تتبع الذاكرة” التي تم ضبط نشاطها مكانيًا إلى المكان الذي تذكر فيه الأشخاص أنهم واجهوا أشياء محددة. وتم نشر الدراسة في صحيفة “Nature Neuroscience”.
يقول “جوشوا جيكوبس Joshua Jacobs” -الأستاذ المساعد في الهندسة الطبية الحيوية، الذي وجه الدراسة-: “لقد وجدنا أن هذه الخلايا العصبية ذات أثر على الذاكرة في القشرة المخية الأنفية، والتي تعد واحدة من أولى المناطق في الدماغ التي تأثرت بمرض الزهايمر، نظرًا لأن نشاط هذه الخلايا العصبية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما يحاول الشخص تذكره، فمن المحتمل أن يكون نشاطها قد تعطل بسبب أمراض مثل: الزهايمر، مما يؤدي إلى عجز في الذاكرة.
يجب أن تفتح نتائجنا خطوطًا جديدة من التحقيق في كيفية أن النشاط العصبي في القشرة الدماغية الأنفية والفص الصدغي يساعدنا على استهداف الأحداث الماضية للتذكر.”
وتمكن الفريق من قياس نشاط الخلايا العصبية المنفردة من خلال الاستفادة من التسجيل من أدمغة 19 مريض في جراحة الأعصاب في عدة مستشفيات، بما في ذلك “المركز الطبي بجامعة كولومبيا إيرفينغ Columbia University Irving Medical Center” . كان المرضى يعانون من الصرع المقاوم للعقاقير وكان لديهم بالفعل أقطاب تسجيل مزروعة في أدمغتهم لتلقي العلاج السريري. صمم الباحثون تجارب “واقع افتراضي VR” على أنها ألعاب كمبيوتر جذابة وغامرة، والمرضى في الفراش يستخدمون أجهزة الكمبيوتر المحمولة وأجهزة التحكم المحمولة للتنقل عبر البيئات الافتراضية. وأثناء أداء المهمة، انتقل المرضى أولاً عبر البيئة لمعرفة مواقع أربعة أشياء فريدة، ثم قام الباحثون بإزالة الأشياء وطلبوا منهم الانتقال عبر البيئة ووضع علامة على موقع كائن أو شيء معين في كل تجربة.
ثم قام الفريق بقياس نشاط الخلايا العصبية أثناء انتقال المرضى عبر البيئة ووضع علامات على أهداف ذاكرتهم. في البداية، حددوا الخلايا العصبية المضبوطة مكانيًا المشابهة لـ “خلايا الأماكن” التي يتم تنشيطها دائمًا عندما ينتقل المرضى عبر مواقع محددة، بغض النظر عن هدف ذاكرة الأشخاص. يقول “سلمان قاسم Salman E. Qasim” -طالب الدكتوراه في جيكوبس والمؤلف الرئيسي للدراسة-: “بدا أن هذه الخلايا العصبية تهتم فقط بحيز المكان للشخص، مثل: نظام GPS”.
لكن الباحثين لاحظوا أيضًا أن الخلايا العصبية الأخرى تنشط فقط في المواقع ذات الصلة بالذاكرة التي كان يتذكرها المريض في تلك التجربة، وكلما تم إرشاد المرضى لاستهداف ذاكرة مختلفة للتذكر، غيرت هذه الخلايا العصبية نشاطها لتتوافق مع الموقع المستهدف للهدف الجديد.
إن ما أثار حماس جيكوبس وقاسم هو أنه بإمكانهما فك شفرة الذاكرة المحددة التي كان المريض يستهدفها بناءً على نشاط هذه الخلايا العصبية.
يقول قاسم: “توضح دراستنا أن الخلايا العصبية في الدماغ البشري تتعقب التجارب التي نتذكرها عن عمد، ويمكنها تغيير أنماط نشاطها للتمييز بين الذكريات. إنها تشبه الدبابيس الموجودة على خريطة Google والتي تحدد المواقع التي تتذكرها للأحداث المهمة، قد يوفر هذا الاكتشاف آلية محتملة لقدرتنا على الاستناد بشكل انتقائي إلى تجارب مختلفة من الماضي ويسلط الضوء على كيفية تأثير هذه الذكريات على الخريطة المكانية لعقلنا”.
كتابة: شيماء وصفي
مراجعة: أحمد عبد الستار
تحرير: شدوى محمود
تصميم: أمنية عبد الفتاح