فيروس التهاب الكبدي C…كفاح طويل يتوَّج بجائزة نوبل
تم منح جائزة نوبل هذا العام لثلاثة علماء، هم هارڤي چيه ألتر (Harvey J. Alter)، مايكل هوتون (Michael Houghton ) وتشارلز إم رايس (Charles M. Rice) وذلك لمساهمتهم الحاسمة في مكافحة التهاب الكبد خاصة التهاب الكبد الڤيروسي سي، الذي ينتقل عن طريق الدم، وأصبح مشكلة صحية عالمية مؤرقة تسبب تليف الكبد وسرطان الكبد حول العالم.
حيث قام كل منهم باكتشافات أساسية أدت إلى التعرف على ڤيروس التهاب الكبد الوبائي سي، مما كشف عن سبب إصابة بعض مرضى عمليات نقل الدم بالتهاب الكبد المزمن، مما جعل بالإمكان إجراء فحوصات الدم وتطوير أدوية جديدة تنقذ حيوات الملايين.
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يوجد 71 مليون شخص مصاب بفيروس التهاب الكبد الوبائي سي، على الرغم من أن الكثيرين لا يدركون أنهم مصابون به.
وقد تم تطوير اختبارات الدم للكشف عن فيروس التهاب الكبد سي، ويمكن لتطوير مجموعة من العلاجات تسمى مضادات الفيروسات المباشرة (direct acting antivirals (DAAs أن تعالجها الآن، مما يزيد من احتمال القضاء على المرض، وفقًا لبيان جمعية نوبل.
عامل معدي غير معروف
الخطوة الأولى للتغلب على الأمراض المعدية هي تحديد العامل -في هذه الحالة الڤيروس- المسبب.
في الستينيات، حدد باروخ بلومبرج (Baruch Blumberg) أن أحد أشكال التهاب الكبد المنقول بالدم سببه فيروس يُعرف باسم فيروس التهاب الكبد بي Hepatitis B virus، ومن ثم تم تطوير اختبارات تشخيصية، ولقاح فعال ضده، وقد حصل بلومبرج على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب عام 1976 عن هذا الاكتشاف.
في ذلك الوقت، كان هارفي ألتر في المعاهد الوطنية الأمريكية للصحة يدرس حالات حدوث التهاب الكبد في المرضى الذين تم نقل الدم إليهم، على الرغم من أن إجراء اختبارات الدم لفيروس التهاب الكبد B المكتشف حديثًا قللت من عدد حالات التهاب الكبد المرتبط بنقل الدم، إلا أنها ظلت موجودة بشكل كبير على نحو مقلق بالنسبة إلى ألتر وزملاؤه، خاصة عندما تم تطوير اختبارات عدوى فيروس التهاب الكبد A واتضح أن التهاب الكبد A لم يكن سبب هذه الحالات غير المبررة.
كان من المقلق أن عددًا كبيرًا من الذين يتلقون عمليات نقل الدم أصيبوا بالتهاب الكبد المزمن، بسبب عامل معدي غير معروف، و قد أشار ألتر وزملاؤه أن الدم من مرضى التهاب الكبد يمكن أن ينقل المرض إلى الشمبانزي -المضيف الوحيد المعرض للإصابة إلى جانب البشر-، وبالمزيد من الدراسات، اتضح أن العامل المعدي الجديد له خصائص الڤيروس، وبالتحقيقات المنهجية التي أجراها ألتر، تم تحديد شكل جديد ومتميز من التهاب الكبد الڤيروسي المزمن أطلق عليه “Non-A, Non-B” حرفيًا يعني أنه ليس أيًا من الڤيروسين A أو B.
التعرف على فيروس التهاب الكبد الوبائي سي
لتبسيط كيفية تعرف العلماء على الڤيروس، يمكنك تخيل أنك تمتلك عدة أشكال من لعبة البازل، وجميعها منبسطة أمامك على طاولة بشكل عشوائي عبثي، قمت بأخذ قطعة واحدة (الڤيروس)، وتريد أن تصل إلى الشكل الكامل لها، ماذا ستفعل؟
ببساطة، قم بتجميع جميع القطع التي تتلاءم -تتداخل- مع قطعتك، ستجد بضع قطع تتناسب معها، ولكن ليس كلها مماثلة لها من حيث اللون، هذه القطع الغير متماثلة تنتمي لشكل آخر دون قطعتك.
الآن، ستبحث في القطع التي تتناسب معها وتتماثل في اللون، وتقوم بعزلها، ثم تجميع الشكل الكامل لقطعتك، ها أنت الآن تملك مصدرها.
والآن عودة إلى الواقع، فيجب القول أن تحديد الڤيروس الجديد أصبح أولوية قصوى، وتم استخدام جميع التقنيات التقليدية للبحث عن الفيروسات، ولكن على الرغم من ذلك، ظلت عملية عزل الڤيروس لدراسته وإجراء التجارب عليه أمرًا مستعصيًا لفترة من الزمن، حتى قام مايكل هوتون، الذي يعمل في شركة الأدوية Chiron، بالعمل الشاق اللازم لعزل التسلسل الجيني للفيروس (القطعة الأصلية)، حيث قام هوتون وزملاؤه بجمع وتكوين مجموعة من شظايا الحمض النووي باستخدام الأحماض النووية الموجودة سلفًا في دم الشمبانزي المصاب.
جاءت غالبية هذه الشظايا من جينوم الشمبانزي نفسه (القطع غير المتماثلة)، لكن الباحثين توقعوا أن بعضها مشتق من الفيروس المجهول (القطع المتلائمة والمتماثلة من الشكل الأصلي).
وبافتراض أن الأجسام المضادة ضد الفيروس ستكون موجودة في الدم المأخوذ من مرضى التهاب الكبد، فقد استخدم الباحثون أمصال المريض لتحديد شظايا الحمض النووي الفيروسي المستنسخة، التي تشفر البروتينات الفيروسية (عزل وتجميع القطع الملائمة لتكوين الشكل الأصلي).
بعد بحث شامل، تم العثور على نسخة إيجابية واحدة، وأظهرت التحقيقات بعد ذلك أن هذا الاستنساخ مشتق من فيروس RNA جديد ينتمي إلى عائلة Flavivirus، وكان اسمه فيروس التهاب الكبد C، وأن وجود الأجسام المضادة في مرضى التهاب الكبد المزمن يشير بقوة إلى أن هذا الفيروس هو العامل المفقود.
كان اكتشاف فيروس التهاب الكبد الوبائي سي حاسمًا، ولكن ظلت قطعة أساسية من الأحجية مفقودة، هل يمكن للفيروس وحده أن يسبب التهاب الكبد؟
للإجابة على هذا السؤال، كان على العلماء التحقق مما إذا كان الفيروس المستنسخ قادرًا على التكاثر بمفرده والتسبب في المرض.
لاحظ تشارلز إم رايس، الباحث في جامعة واشنطن في سانت لويس، منطقة غير معهودة من قبل في نهاية جينوم فيروس التهاب الكبد الوبائي سي، واشتبه في أنها قد تكون مهمة لتكاثر الفيروس، بالإضافة إلى ذلك، لاحظ رايس الاختلافات الجينية في عينات الفيروس المعزولة، وافترض أن بعضها ربما يعيق تكاثر الفيروس.
من خلال الهندسة الوراثية، أنتج رايس نوعًا مختلفًا من الحمض النووي الريبي لفيروس التهاب الكبد الوبائي سي شمل المنطقة المحددة حديثًا من الجينوم الفيروسي، وكان خاليًا من الاختلافات الجينية المعطلة لتكاثره، وعندما تم حقن هذا الحمض النووي الريبي في كبد الشمبانزي، تم اكتشاف فيروس في الدم، ولوحظت تغيرات مرضية تشبه تلك التي شوهدت في الحالات البشرية المصابة بالمرض المزمن.
كان هذا هو الدليل النهائي على أن فيروس التهاب الكبد الوبائي سي وحده يمكن أن يتسبب في حالات التهاب الكبد غير المبررة بواسطة نقل الدم.
أهمية هذا الاكتشاف الحائز على جائزة نوبل
يعد اكتشاف الحائزين على جائزة نوبل لفيروس التهاب الكبد الوبائي إنجازًا بارزًا في المعركة المستمرة ضد الأمراض الفيروسية.
بفضل اكتشافهم، أصبحت اختبارات الدم شديدة الحساسية للفيروس متاحة الآن، وقد قضت بشكل أساسي على التهاب الكبد المصاحب لعمليات نقل الدم في أجزاء كثيرة من العالم، مما أدى إلى تحسين الصحة العالمية بشكل كبير.
سمح اكتشافهم أيضًا بالتطوير السريع للأدوية المضادة للفيروسات الموجهة ضد التهاب الكبد سي، ولأول مرة في التاريخ، يمكن الآن الشفاء من المرض، مما رفع الآمال في القضاء على فيروس التهاب الكبد C من سكان العالم، وبدء بذل الجهود الدولية لتسهيل اختبارات فحص الدم، وإتاحة الأدوية المضادة للفيروسات في جميع أنحاء العالم.
كتابة: غدي محمد
تحرير: إسراء وصفي
تصميم: ميار محمد