أن تأكل الكهرباء!
نحن في طريقنا اليوم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى عكس الآلاف من السياح الذين يسافرون للإعجاب بالينابيع والبحيرات الساخنة في حديقة يلوستون الوطنية كل عام، سيصحبنا إلى هناك كلًا من د/ عبدالرحمن محمد -طالب الدراسات العليا بجامعة ولاية واشنطن بمدينة بولمان “WSU”- ود/ هالوك بينال “Haluk Beyenal” -المشرف على البحث- مع فريق من العلماء للبحث عن الحياة داخل هذه الينابيع والبحيرات الساخنة، ولأجل ذلك وتحديدًا في شهر أغسطس/آب لعام 2018 قطع الفريق مسافة سبعة أميال عبر ممرات منعزلة ذات مناظر خلابة في منطقة بحيرة هارت الساخنة “Heart lake” الموجودة بالحديقة ليجدوا أربعة ينابيع ساخنة مناسبة لعمل تجربتهم (تتراوح درجة الحرارة فيها بين 45 و91 درجة مئوية وأس هيدروجيني ثابت نسبيًا يتراوح بين 8.5 و8.7)، قاموا بوضع بعض الإلكترودات (أقطاب كهربية موصلة ببطاريات مُثبتة للجهد الكهربي والتي يمكن تشغليها والتحكم فيها عن بعد) داخل مياهها وتركوها مغمورة هناك لمدة 32 يومًا، آملين في أن يقنعوا أيًا من أشكال الحياة الموجودة بالخروج من مخابئها والسعي نحو الكهرباء.
بعد انقضاء المدة، عاد الفريق مجددًا إلى الموقع لتفقد الأقطاب الكهربية ليجدوا أن الآلاف من أنواع البكتيريا تغطي أسطح هذه الأقطاب، وبذلك نجحوا في التقاط هذه المخلوقات المجهرية التي تأكل وتتنفس الكهرباء، وبالفعل نشرت هذه الدراسة بتاريخ 28 فبراير/شباط 2019 في العدد 414 من مجلة “Journal of Power Sources”
معظم الكائنات الحية -بما في ذلك البشر- تحتاج إلى الإلكترونات، وهي جسيمات صغيرة سالبة الشحنة، لتدخل في سلسلة معقدة من التفاعلات الكيميائية “ETC” لإنتاج الطاقة “ATP”. يحتاج كل كائن حي إلى مصدر للإلكترونات ومكان لاستقبال هذه الإلكترونات، نحن البشر نحصل على إلكتروناتنا من السكريات في الطعام الذي نأكله وننقلها إلى الأكسجين الذي نتنفسه، أما في حالة هذه البكتيريا الكهربائية استطاعت أن تأكل الكهرباء في أنقى صورها -صورة الإلكترونات- لتنتج الطاقة وتعيش.
تبدو حكاية أن تأكل الإلكترونات هذه خيالًا علميًا كحكايات الكاتب الإنجليزي هربرت ويلز، لكنها حقيقية جدًا، على الرغم من صغر حجم البكتيريا -خلية واحدة فقط- فهي تستطيع أن تتكيف مع أكثر ظروف كوكبنا العزيز قسوة كالتواجد في ينابيع ساخنة تصل درجة حرارتها إلى 90 درجة مئوية أو في حالات كعدم وجود الأكسجين، ولذلك هي أقدم منا على سطح الأرض ومن المؤكد أنها ستستمر طويلًا.
- محاولة للرد على “كيف؟!”
ما زلنا في الولايات المتحدة الأمريكية ولكن هذه المرة نحن في طريقنا إلى جامعة واشنطن في سانت لويس بولاية ميزوري “WUSTL” لنلتقي بدكتور أربيتا بوز “Arpita Bose” -أستاذ مساعد لقسم البيولوجيا- ولفيف من الباحثين، وسنتحدث عن محاولاتهم للبحث في الكيفية التي تأكل بها بعض البكتيريا الكهرباء.
استعملت د/ أربيتا وزملاؤها في بحثهم بكتيريا رودوبسودوموناس بالوستريس “Rhodopseudomonas palustris TIE-1″، والتي تعتمد في إنتاج طاقتها على عملية البناء الضوئي “phototrophic”، ولكي تتذكر ما هو البناء الضوئي يتدخل أستاذ العلوم ليقول لك أنه ينقسم إلى نوعين: البناء الضوئي الأكسجيني، التي تنقل الطاقة الضوئية فيها الإلكترونات من الماء (H2O) إلى ثاني أكسيد الكربون (CO2)؛ لإنتاج الكربوهيدرات. أثناء عملية النقل هذه، يُختزل ثاني أكسيد الكربون نتيجة لاكتساب الإلكترونات، بينما تحدث أكسدة للماء نتيجة لفقد الإلكترونات. وفي النهاية، يُنتَج الأكسجين مع الكربوهيدرات. يعني أن الماء هنا هو مصدر الإلكترونات. من ناحية أخرى، يستخدم البناء الضوئي غير الأكسجيني جزيئات أخرى غير الماء مثل الحديد أو كبرتيد الهيدروجين للحصول على الإلكترونات. وسُمي البناء الضوئي غير الأكسجيني بهذا الاسم نظرًا لعدم إنتاجه الأكسجين. وتحدث هذه العملية عادةً في البكتيريا مثل التي اعتمد عليها بحث د/ أربيتا وزملائها، غير أنهم استبدلوا الحديد بأقطاب كهربية لإنتاج كهرباء نقي في صورة إلكترونات.
لابد لك أن تعرف أولًا أن دخول أو خروج الكهرباء عبر الغشاء الخارجي للبكتيريا يمثل التحدي الرئيسي.
وجدت د/ أربيتا وزملاؤها بما فيهم د/ روبرت كرانز، أستاذ علم الأحياء، أن سلالة رودوبسودوموناس بالوستريس تبني قناة لقبول الإلكترونات عبر الغشاء الخارجي معتمدةً على جزيء مساعد يحتوي على الحديد يُسمى سيتوكروم عشاري الهيم “deca-heme cytochrome c”. من خلال معالجة هذا البروتين واستخدامه، يمكن أن تشكل البكتيريا جسرًا لمصدر الإلكترونات الخاص بها.
- تطبيقات مضيئة:
هذه الآلية تساعد البكتيريا في أن تعيش في بيئة ليس بها أي مغذيات سوى الطاقة الكهربية، لذلك يؤمن د/ دينيش غوبتا “Dinesh Gupta” بأننا يمكننا أن نربي هذه البكتيريا التي تتغذى على الكهرباء وثاني أكسيد الكربون فقط؛ لإنتاج مواد ذات قيمة كالوقود الحيوي.البكتيريا الكهربائية لا تستقبل الإلكترونات فحسب هي أيضًا تعطيها، أي أنها تتبادل الإلكترونات مع الأقطاب الكهربائية الخاملة، الأمر الذي فتح مجالات جديدة في الأبحاث الأساسية والتطبيقية، لذلك يعتقد الباحثون أنه يمكن لهذه البكتيريا “التهام” التلوث عن طريق تحويل الملوثات السامة إلى مواد أقل ضررًا، وتوليد الكهرباء من خلال هذه العملية لتنتج تيارًا كهربائيًا يمكن استخدامه في تطبيقات الطاقة المنخفضة كونها تمرر إلكتروناتها إلى أسطح صلبة أخرى.ليس سيئًا بالنسبة لكائنات حية وحيدة الخلية، أليس كذلك؟!
كتابة: عبدالرحمن احمد
مراجعة: ميار محسن
تحرير: شدوى محمود
تصميم: عاصم عبدالمجيد