أبو بكر الرازي (865 – 925 م) | الحاوي في الطب
كانت الدولة العباسية هي العصر الذهبي للنهضة الإسلامية في كافة نواحي الحياة، خاصة الحياة العلمية، وشهدت بزوغ نجوم كُثر من العلماء في شتى المجالات.
سنتحدث في مقالنا هذا عن (أبو بكر محمد بن زكريا الرازي)، عالم الطب والكيمياء، الذي وصفه بعض المُؤرخين أنه أعظم طبيب إسلامي عرفته البشرية. سنتعرف إلى حياته ومُؤلفاته وأهم إنجازاته.
حياته:
وُلِد أبو بكر الرازي في قرية الري، بالقُرب من طهران حاليًا، في سنوات عمره الأولى اهتم بدراسة الموسيقى، وكان عازفًا ومُغنيًّا معروفًا، واستمتع بالموسيقى طيلة حياته.
درس الفلسفة، لكنه لم يُكمل دراسته فيها لعدم استيعابه لأهميتها، وفضَّل الدراسات العلمية.
درس الكيمياء وله فيها اكتشافات كثيرة، منها اكتشاف حمض الكبريتيك والإيثانول، لكنه ترك مُمارسة علوم الكيمياء في سن مُبكر، لتَضرُر عينيه بسبب الأبخرة والمواد الكيميائية التي تعرَّض لها في أثناء التجارب الكيميائية.
ودرس الطب على يد مُعلمه (علي بن سهل ربان الطبري) المُلقَّب بـ “ابن ربان الطبري”، كما كان لابن ربان دورًا في اهتمام ابن الرازي بالفلسفة الروحية.
كان الطبري طبيبًا مشهورًا، يعمل في خدمة بلاط الخليفة في عهد الخليفة المُعتصم والخليفة المُتوكل، ولكن سرعان ما فاق التلميذ أستاذه وزادت شهرة الرازي وعلمه.
كما تَعلَّم الرازي علوم الطب ومُمارساته في مُستشفيات بغداد المُجهَّزة والأكثر تطورًا في ذلك الوقت، إذ كانت بغداد مركزًا حضاريًا مُتقدمًا، وكانت المركز الثقافي والفكري للعالم الإسلامي. واحتوت بغداد المكتبات الرائعة ومعاهد البحث، التي ساعدته على دراسته وأبحاثه.
أبو بكر الرازي طبيبًا:
عُيِّن الرازي مُديرًا لمُستشفى في مسقط رأسه الري، لكن ما أن وصلت شهرته إلى الخليفة العباسي (المُكتفي) حتى استدعاه مرة أخرى إلى بغداد، ليكون كبيرًا للأطباء ومُديرًا لأكبر مُستشفى في العاصمة العباسية.
طريقته في اختيار أماكن المُستشفيات:
كان للرازي طريقة رائعة لاختيار مواقع المُستشفيات الجديدة، فعندما طلب منه رئيس وزراء المُكتفي بناء مُستشفى جديدة، وضع عِدّة قطع من اللحوم الطازجة في مناطق مُختلفة من بغداد، وبعد بضعة أيام فحص قطع اللحم واختار المنطقة التى وجد بها أقل قطع اللحوم فسادًا، مُوضحًا أن “الهواء” بها كان أنظف وأنقى وأكثر صحة.
الرازي والتغذية العلاجية:
اعتمد الرازي النظام الغذائي الصحي إجراءً علاجيًا أساسيًا في منهجيته الطبية، وأكد على الاهتمام برغبات المرضى الغذائية خاصةً في أثناء النقاهة، كما دعا إلى استخدام العسل كعلاج بسيط ومُتوفر، وكواحد من المواد الأساسية في الأدوية المُركَّبة.
علاقته بالمرضى:
كانت علاقة الطبيب بالمريض أكثر العوامل أهمية في علاج المرضى بالنسبة للرازي، وكان يُشدد دومًا على طلابه أنه على الطبيب مُواجهة المرضى بوجه بشوش، وكلمات مُبهجة مُشجعة تغرس الأمل في الشفاء لدى المريض، حتى عندما يكون الشفاء صعبًا.
وكان ينصح المرضى باختيار الطبيب الذي يثقون به ويطمئنون لنصائحه، ثم يلتزمون بتعليماته.
كان الرازي كريمًا وخَيِّرًا مع مرضاه وعاملهم بإنسانية، وقضى مُعظم حياته في السفر من مدينة إلى أخرى يرعى المرضى، ليس فقط الحُكام والنبلاء -الذين طلبوا خدماته باستمرار- ولكن أيضًا الفقراء، الذين منحهم الصدقات وقدَّم لهم الخدمات والعلاج دون مُقابل.
أهم كتاباته:
بلغ عدد كتاباته ما يُقارب 230 كتابًا في مواضيع مُختلفة، مثل الطب والجراحة والرياضيات والموسيقى والشطرنج، وأثَّرت كتبه في الطب والفلسفة والكيمياء تأثيرًا كبيرًا في الحضارة الإنسانية -خاصة في أوروبا-، ومن أهم أعماله:
1- الحاوي في الطب:
يُعدّ أهم كتاب طبي في العصور الوسطى، وفيه جمع قراءاته للطب اليوناني والروماني، ومُلاحظاته وتجاربه السريرية ودراسات الحالة الخاصة به. كما أضاف طرق العلاج التي مارسها خلال سنوات مُمارسته الطبية.
ويعتقد الكثير أن هذا الكتاب قد جمعه طلابه بعد وفاته، وتعود شهرة الرازي بشكل أساسي إلى السجلات والتاريخ المكتوب في هذا الكتاب.
2- المنصوري في الطب:
هو الدليل المُختصر للعلوم الطبية، كتبه لحاكم بلدته الري (منصور بن إسحاق)، وهو من أكثر مُؤلفاته احترامًا في الغرب.
3- مَن لا يحضره الطبيب:
كتب هذا الكتاب لعامة الناس والفقراء والمُسافرين، ومَن لا يستطيع الوصول إليه، وفيه علاجات مُشتركة في أكثر من مرض، يُمكن استخدامها إذا تعذَّر الرجوع إلى الطبيب.
4- في خلال ساعة:
كتب الرازي هذا الكتاب للأمراض التي يُمكن علاجها خلال ساعة مثل: الصداع، ألم الأسنان، آلام الأذنين، المغص، الحكة، فقدان الإحساس بخدر الأطراف، وآلام العضلات.
5- كتاب الجدري والحصبة:
يُعدّ الرازي هو أول مَن وصف الجدري وميَّزه عن الحصبة، على الرغم من ذلك، استمر الأطباء الأوروبيون في الخلط بين هذين المرضين إلى وقت قريب.
تُرجِم هذا الكتاب إلى اللاتينية أكثر من 12 مرة.
6- المُرشد:
هو مُقدمة قصيرة للمبادئ الطبية الأساسية، وكان المقصود منها أن تكون مُحاضرة للطلاب.
7- الشكوك على جالينوس:
انتقد في هذا الكتاب بعض نظريات (جالينوس)، خاصة نظرية الأخلاط الأربعة المُنفصلة وهي: الدم والبلغم والصفراء الصفراء والصفراء الداكنة، وهذه السوائل يُعتقَد أن توازنها هو مفتاح الصحة ودرجة حرارة الجسم الطبيعية، وذكر أن نظريات جالينوس لا تتوافق مع مُلاحظاته ودراساته السريرية.
8- المنهج الفلسفي.
9- الطب الروحاني.
10- سر الأسرار في الكيمياء.
أهم إسهاماته الأخرى:
-تشمل إسهاماته في علم الأدوية: إدخال المراهم الزئبقية، كما طوَّر الأدوات المُستخدَمة في الصيدليات مثل: الأهوان، المدقات، القوارير، الملاعق، الأكواب، والأوعية الزجاجية.
-أنشأ قسمًا خاصًا لعلاج المرضى النفسيين في المشفى الرئيسي في بغداد، وعالج مرضاه باحترام ورعاية وتعاطُف، ومنح كل مريض مبلغًا من المال للمُساعدة على تلبية احتياجاته الفورية بعد الخروج من المُستشفى، ما يُسمَّى الآن “الرعاية النفسية اللاحقة”.
-استخدم الرازي التاريخ المرضي للحالات على نطاق واسع في كتاباته، كأداة تعليمية وتوثيق للأمراض المُختلفة التي شخَّصها وعلاجها.
-ذكر أن الأعصاب لها وظائف حركية أو حسية، وعيَّن ترتيبًا عدديًا للأعصاب القحفية -وهي من العصب البصري إلى الأعصاب تحت اللسان-، كما صنَّف الأعصاب الشوكية.
-جمع بين المعرفة بتشريح الأعصاب في الجمجمة والحبل الشوكي، والمعلومات السريرية التي جمعها من دراسته للمرضى، لتحديد الآفات في الجهاز العصبي.
وأخيرًا، يُوجد الكثير لنكتبه ونُناقشه عن هذا العالِم الجليل، وإسهاماته في الطب والكيمياء والفلسفة، لا يُمكن لمقال واحد أن يُنصفه، فكلما عرفنا مزيدًا من المعلومات عنه، وعن حياته المُكرَّسة للطب، زاد تقديرنا لتاريخنا وحضارتنا.
مراجعة: آية ياسر
كتابة: نهال المغربي
تدقيق لغوي: شدوى محمود