سفن الآلهة عند المصريين القدماء
منذ استقرار الإنسان المصري على ضفاف النيل، نشأت علاقة من الاحترام والحب والتقديس لذلك النهر الذي فاض بالعطاء عليه، كان نهر النيل هو مصدر الحياة للمصريين القدماء، فرُبط بشكل واضح بالمعتقدات الدينية، ففي ظلمة الليل، كانت مجرة درب التبانة يشبهونها بالنيل السماوي مرتبطة بحتحور (إله السماء والحب والجمال والموسيقى وكل ما يبث السعادة)، وكذلك تم ربط نهر النيل بـ (Uat_Ur) وهو البحر الأبيض المتوسط، حيث امتد لمسافات شاسعة وكان عن طريقه يتم جلب البضائع من الموانئ الأجنبية.
وقام القدماء بصنع بعض السفن التي لها حكايات ربما تكون من الغريبة على مسامعك، وكانت حكايات تلك السفن التي تبحر في النيل الشاسع مرتبطة بشكل خاص بالآلهة والتي سنتحدث عنها لاحقًا، ولكن دعنا نعرف في البداية تلك الوسيلة الهامة التي صنعت من قصب البردي!
وسيلة هامة تبدأ من قصب البردي:
نرى على جدران المعابد تلك المراكب المائية التي تُعد بلا شك من وسائل النقل التي بنيت في مصر، فظهرت القوارب الصغيرة التي صُنعت من قصب البردي في نقوش في فترة ما قبل الأسرات (حوالي 6000 – 3150 قبل الميلاد)، ومن ثم تطورت وأصبحت سفنًا وصُنعت من الخشب، ولقد استخدمها المصريون في المشاريع التجارية كالصيد والتجارة والسفر وكذلك في الحروب، وظهر ذلك في المملكة المصرية القديمة (من حوالي 2613-2181 قبل الميلاد)، فظهرت في المعتقدات والممارسات الدينية، وترتبط السفن المعروفة بـ (Barques of the Gods) بعدد من الآلهة المختلفة، ولكل منهم أهمية منفردة، ولكن يوجد أهمية مشتركة بينهم ألا وهي ربط العالم الزائل بالعالم الإلهي.
والآن حانت اللحظة عزيزي القارئ، لآخذك في جولة نتعرف فيها على بعض السفن المشهورة لدى القدماء المصريين، ونتعرف على بعض القصص المثيرة لكل منهم، فهيا بنا..
سفينة الإله رع:
تُعد سفينة الإله رع من أكثر السفن أهمية حيث تبحر في السماء كل يوم وتكون ظاهرة كالشمس، ويظهر ذلك في إحدى القصص الدينية التي تحكي أن الإله رع يغضب من الجنس البشري وغبائه المستمر ويقرر تدميرهم؛ فيرسل سخمت -واحدة من أقدم الآلهة المصرية، والتي تم تصويرها على أنها امرأة برأس أسد مع إضافة قرص الشمس على رأسها واسمها مشتق من الكلمة المصرية “Sekhem” (والتي تعني “القوة”)- لتلتهمهم وتقضي على مدنهم، ولكن الآلهة خافوا أن تقتل كل البشر؛ لذلك في النهاية رضي رع عن البشر، فقام بوضع الخمر لها حتى ثملت وفقدت وعيها وهدأت، وبذلك تنتهي القصة ولكن في بعض الإصدارات يُقال أن رع غير راضٍ عن البشرية، لذا يركب مركبته العظيمة ويبحر بعيدًا في السماء ونظرًا لأنه لا يستطيع الانعزال عن العالم تماما؛ فكان يظهر كل صباح كقرص الشمس المضيء، كان يُطلق على المركب الشمسي الذي رآه الناس خلال النهار اسم (Mandjet)، والذي كان يتنقل عبر العالم السفلي يُعرف باسم (Meseket).
العدو اللدود للإله رع:
بحلول عصر الأسرة الوسطى في مصر (2040-1782 قبل الميلاد)، تضمنت تلك الأسطورة بعدًا آخر للثعبان المعروف باسم أبوفيس (Apophis) عدو إله الشمس رع، فتقول الأسطورة عند نزول سفينة الإله رع إلى الغرب في السماء وفور دخوله العالم السفلي، حيث كان ينتظر رع أبوفيس لمهاجمته، وكان أبوفيس متواجدًا في أسطورة بداية الخلق، ولقد أرد أن يعيد الكون لحالته الأصلية وهي الحالة التي كانت قبل خلق الكون وهي عدم وجود أضداد مثل الماء والأرض والنور والظلام والذكر والأنثى، ويمكنه فعل ذلك إذا دمر سفينة الإله رع، أصبح أبوفيس عدوًا لإله الشمس لأن الشمس كانت العلامة الأولى للعالم المخلوق وترمز إلى النظام الإلهي والنور والحياة ، وإذا كان بإمكانه ابتلاع إله الشمس ، فيمكنه إعادة العالم إلى الظلام، ويصور في عدد من اللوحات والنقوش جميع الآلهة الأكثر شهرة وهم مع الإله رع في سفينته، لحمايته من أبوفيس خلال الرحلة للعالم السفلي، وهم يقومون، سواء هم فقط أو مع الموتى المبررين، وذلك شجع البشر من بيوتهم ومعابدهم على المشاركة في هذا النضال، فقد لوحظت طقوس مثل القضاء على أبوفيس The Overthrowing of) Apophis)، فقد تم صنع أشكال وصور ابوفيس من الشمع وكان يتم تشويهها بشكل قدسي والبصق عليها ومن ثم حرقها.
سفينة الإله آمون:
كانت سفينة رع موجودة في العالم الروحي، ولكن كان هناك سفن أخرى تم بناؤها وصيانتها بإيدي بشرية، وأشهرهم كانت سفينة الإله آمون، التي تم بناؤها وحفظها في طيبة.
كانت سفينة آمون معروفة لدى المصريين باسم (Userhetamon)، الجبار هو آمون، وكانت تلك السفينة هدية من أحمس الأول (حوالي 1570- 1544 قبل الميلاد) بعد انتصاره على الهكسوس وتربعه على عرش مصر، فبدأ فترة مصر الجديدة (حوالي 1570- 1544 قبل الميلاد).
ولقد كتبت عالمة المصريات مارغريت بونسون: “كانت السفينة مغطاة بالذهب من أعلى خط الماء ومليئة بالكبائن والمسلات والمنافذ والزخارف”، فلقد كان يوجد حجرة لضريح الإله مزينة بالذهب والفضة والأحجار الكريمة، حيث قبع آمون والتي ظاهر فيها تمثال آمون وهو يترأس المهرجانات ويرحب بمديح شعبه.
سفينة الإله أوزوريس:
أوزوريس الملك الأول لمصر، المقرب لقلوب شعبه، الذي قُتل على يد شقيقه ست وبثت فيه الحياة مرة أخرى شقيقته إيزيس وأختها نفتيس، وكان أوزوريس سيد الموتي وقاضيهم، بينما كان حورس نجل أوزوريس من بين أهم الآلهة في البانتيون (معبد يضم كل الآلهة)، والذي ارتبط بالعهد العادل للملك.
كان يتوقع الشعب عند موت شخصًا ما؛ فإنه سيقف أمام أوزوريس للحكم على أفعاله في الحياة، برغم من أن حكم الروح سيتأثر بـ 42 قاضيًا وتحوت وأنوبيس الذين كانوا يشاركون في قبول أو رفض وزن القلب والاعتراف السلبي، إلا أن كلمة أوزوريس هي التي تقضي تلك المحكمة وهي القاضية، ونظرًا لأن وجود المرء في الحياة الآخرة يعتمد على رحمته، فقد تم تكريمه دائمًا طوال تاريخ مصر.
تعود عبادة أوزوريس إلى فترة الأسرات المبكرة في مصر (3150 – 2613 قبل الميلاد)، وقد أصبحت قصة موت أوزوريس ومن ثم حياته مرة أخرى من قِبل إيزيس مشهورة جدًا لدرجة أنها عمت الثقافة المصرية، وبرغم من تكريم آلهة عدة، إلا أن تكريم ومهرجان أوزوريس ظل مهمًا ومؤثرًا، واستندت الطقوس الجنائزية على عبادة أوزوريس، وكان أي ملك مرتبطًا بحورس في الحياة وأوزوريس في الموت.
وفي الواقع، كان يُعتقد أن الملك يسافر إلى أرض الموتى بسفينته الخاصة التي كانت تشبه سفينة أوزوريس.
عُرفت سفينة أوزوريس باسم نشمت (Neshmet)، علي الرغم من أنها بُنيت بأيدي بشرية، إلا أنها تنتمي إلى إله المياه نون وتعتبر مهمة لدرجة أن المشاركة في استبدالها أو ترميمها.
كانت تُعتبر من أهم الأعمال الصالحة للمرء في حياته، فكتب الكاتب الفرنسي بونسون: “سفينة متقنة، كانت مصنوعة من لحاء الشجر، تحمل حجرة للضريح مزينة بالذهب والمعادن الثمينة الأخرى والأحجار… تم تجديدها أو استبدالها من قِبل كل ملك”.
وفي خلال مهرجان أوزوريس في أبيدوس، كانت السفينة تنقل تمثال أوزوريس من معبده إلى قبره، وتُعاد بذلك تكوين قصة حياته وموته وقيامته، وفي بداية المهرجان تلعب اثنتان من عذارى المعبد دور الآلهة في تلاوة ليتورجيا النداء والاستجابة لرثاء كلًا من إيزيس ونفتيس اللائي يدعون أوزوريس للمشاركة في الحفل مع إعادة إحياءه، وبمجرد خروجه من معبده على شكل تمثاله كانت السفينة تنتظره؛ لنقله ومن ثم يبدأ الاحتفال.
السفن لجميع الآلهة:
كان هنالك سفن خاصة للعديد من الآلهة والإلهات، ولكن نحن ذكرنا أشهر السفن، ويتم تزينها وتجهيزها بشكل متقن كمعابد عائمة، ويصف ذلك بونسون ويقول: “أبحر آلهة الآخرين في أيام العيد مع الكهنة الذين يجدفون السفن على البحيرات المقدسة أو على النيل، وأطلق علي قارب خونس ( Khons) بـ (Brilliant of Brow) أي الحاجب المتألق، وأطلق على قارب الإله مين اسم (Great of Love) أي عظيم الحب، وتم الاحتفاظ بقارب الإله هينو في مدينة هابو وتم عرضه حول أسوار العاصمة في الأيام المقدسة، وكان غطاءه مزخرفًا للغاية وجميلًا، ويمكن أن يكون ذلك القارب عبارة عن سفن شراعية فعلية أو محمولة على أعمدة في المهرجانات، فقد كان لدى الآلهة كلا النوعين”.
وهناك أيضًا سفينة حتحور في دندرة ذات فخامة، وكان لمعابد الآلهة بحيرة مقدسة يمكن للسفينة أن تبحر من خلالها أيام الأعياد أو في المناسبات الخاصة، وأدى ارتباط الآلهة بالسفينة إلى الاعتقاد بأن الملك ترك حياته الأرضية للعالم التالي في قارب مماثل، وكانت تتضمن الصلوات والأناشيد للملك المتوفى، أملًا في أن تصل سفينته إلى الحياة الأخرة دون وقوع حوادث، وتشير بعض من التعويذات إلى تعليمات ملاحية، لهذا السبب؛ غالبًا ما تم تضمين السفن ضمن البضائع الجنائزية للمتوفى.
من أشهر السفن بالإضافة إلى ما تحدثنا عنه، هي سفينة خوفو الشهيرة، ولكن ما يسمي بالصنادل الشمسية دُفن مع العديد من الملوك عبر تاريخ مصر، ودفن خوفو(2589-2566 قبل الميلاد) -الذي بني الهرم الأكبر في الجيزة- في مقبرته التي أُعدت للحياة الآخرة في الهرم الأكبر كما هو الحال في أي مقبرة أخرى، ولم يكن الملك الأول أو الأخير الذي تُعد له مقبرة في هرمه، وأصبح من المعتاد تضمين القارب ضمن أمتعة القبور في مقابر الطبقة العليا.
واُعتقد أن تلك القوارب النموذجية مثل جميع الأمتعة الجنائزية، تخدم روح الشخص المتوفي في الحياة الآخرة، ويمكن أن تنقل الشخص بأمان من مكان إلى آخر بواسطة استخدام بعض التعاويذ السحرية، وكذلك تماثيل الحيوانات كفرس النهر مثلًا، كانت تُضاف إلى المقابر لنفس الغرض وأنها ستحيا مرة أخرى في الآخرة ويتم استدعاؤها بواسطة تعويذة لخدمة الميت.
في النهاية كبيرة كانت أم صغيرة تلك السفن لا يهم، ولكن من الضروري إدراجها لتسهيل حياة المرء في الأخرة والأهم من ذلك أن القارب الشخصي للفرد ربط الروح بالإله بنفس الطريقة التي فعلتها سفن الآلهة في حياة الفرد في الدنيا.
المصادر: 1
كتابة: آية ياسر
مراجعة: عبدالرازق سليم
تدقيق لغوي: شدوى محمود