الحرب الأهلية في أمريكا : حرب صنعت أمة
لو أخبرتك يا صديقي أنَّ حربًا حدثت في أقوى دول العالم حاليًا وهي الولايات المتحدة، حربٌ استمرت أربع سنوات، وساهمت في إنهاء العبودية وتكوين أمة قوية ومستقرة، إنها “الحرب الأهلية الأمريكية”.
دعنا في هذا المقال نعرف ما حدث فيها، وكيف انتهت، ولكن في المقدمة دعنا نعرف ما السبب في إشعال نيران تلك الحرب.
ما قبل الحرب
البداية من منتصف القرن التاسع عشر، كانت فترة شهدت فيها الولايات المتحدة ازدهارًا هائلًا، ولكن كان يوجد فرق اقتصادي شاسع بين المناطق الشمالية والجنوبية؛ ففي الشمال، كانت الصناعة متقدمة جدًا، وكانت الزراعة محدودة على بعض الأراضي الصغيرة، بينما كان الاقتصاد في المناطق الجنوبية معتمدًا بشكلٍ كبيرٍ على زراعة القطن والتبغ، ومعتمدًا بشكلٍ أساسي على العمالة من العبيد السود.
ومع تزايد حركات رفض العبودية في الشمال بعد فترة الثلاثينيات في القرن التاسع عشر، وامتداد المعارضة الشمالية لها، حتى وصلت إلى المناطق الغربية الجديدة، أدَّى ذلك إلى ازدياد تخوُّف العديد من الجنوبيين من خطر انتهاء العبودية في الولايات المتحدة، والذي كان يمثل العمود الفقري للاقتصاد في الجنوب.
بداية التوتر بين الشمال والجنوب
عام 1854م، قام الكونغرس الأمريكي بسن “قانون كانساس – نبراسكا (Kansas-Nebraska Act)” والذي شرع العبودية بشكل قانوني في المناطق الجديدة، واحتدم القتال بين القوات المؤيدة والمعارضة للقانون في سلسلة مواجهات عنيفة ودموية في ولاية “كانساس”، عُرفت باسم (كانساس الدامية/ Bleeding Kansas).
أدَّت المعارضة لهذا القانون في الشمال إلى تكوين الحزب الجمهوري الجديد، والذي بدوره يقوم على مبدأ معارضة العبودية، وامتدادها في المناطق الغربية.
عام 1857، حكمت المحكمة العليا الأمريكية ببطلان الدعوى المرفوعة إليها من قبل “دريد سكوت”، الذي طالب بمنحِه حريته في تلك الدعوى؛ فقد تنقَّل مع مالكِه بين ولايات حرة حُظرت فيها العبودية، وبموجب قانون تلك الولايات، كان العبيد يُعطَون حُريتهم بمجرد دخولهم إليها ولا يعودون للعبودية حتى بعد الرحيل منها، لكن مالِك سكوت لم يمنَحْه ذلك الحق، الأمر الذي دفع سكوت للاحتجاج للمحاكم المحلية، واكتسبت القضية زخمًا شعبيًا شديدًا حتى وصلت للمحكمة العليا، حيث خسر سكوت سباق نضاله لحريته.
عام 1859، قام أحد مناهضي العبودية “جون براون” مع مجموعة مسلحة، بشن هجوم مسلح على قاعدة عسكرية تقع في مدينة “هاربرز فيري” غرب ولاية “فيرجينيا”، كان الهجوم أول خطوة في خطة تحريرية هدفت لتأسيس معقل للعبيد المحررين في ولايتي “مريلاند” و”فيريجينا”، وبالرغم من القبض على براون أثناء الهجوم وإدانته بالخيانة ومن ثم إعدامه شنقًا، إلا أن هذا الهجوم أثار مخاوف الجنوبيين من ثورات العبيد ضدهم، مما زاد التوتر أكثر وأكثر بين الجنوب والشمال، واقتنع الكثير من الجنوبيين أنَّ جيرانَهم الشماليين كانوا عازمين على القضاء على العبودية، وتأتي انتخابات الرئاسة ويفوز بها الرئيس الجمهوري “أبراهام لينكون”، ونتيجة لذلك في خلال ثلاثة أشهر، أعلنت سبع ولايات جنوبية انفصالها وهي: “كارولاينا الجنوبية”، و”ميسيسبي”، و”فلوريدا”، و”ألاباما”، و”جورجيا”، و”لويزيانا”، و”تكساس”.
بداية الحرب
كانت الولايات المنفصلة في الجنوب تُطلق على نفسها “الولايات الكونفدرالية الأمريكية”، ونلاحظ يا صديقي أن الصراع بين الشمال والجنوب لم يكن متكافئَا أبدًا؛ ففي الشمال، كان يوجد 23 ولاية تمتلك ميزة زيادة عدد السكان، والصناعة، وتصنيع السلاح وبناء السكك الحديدية، على عكس ولايات الجنوب الذين يستخدمون الأساليب التقليدية العسكرية، ولكن كان لديهم أفضل القادة في البلاد، وكذلك كان لديهم سبب يؤمنون به، ألا وهو: الحفاظ على تقاليدهم ومؤسساتهم وعلى رأسها العبودية.
بدأ أول اشتباك عسكري حقيقي بين “قوات الجنوب الكونفدرالية” و”قوات الشمال الاتحادية” عند قلعة سومتر “Fort Sumter”، والتي سقطت بسهولة في أيدي الجنوبيين، وعقب هذا الانتصار، دخلت 4 ولايات جديدة في الحِلف الجنوبي وهي تينيسي، كارولاينا الشمالية، أركنساس، وفيرجينيا، فيما التزمت ولايات مريلاند وميزوري وكنتاكي الحياد، ولكن مواطنيها كانوا متضامنين مع الجنوب.
في معركة “بول رن الأولى First Battle of Bull Run” التي اندلعت في شهر يوليو عام 1861م، قامت القوات الكونفدرالية بقيادة “توماس جوناثان «ستونوول» جاكسون (Thomas Jonathan “Stonewall” Jackson )” بإجبار عدد هائل من القوات الشمالية على التقهقر إلى العاصمة واشنطن، وأُجبر “أبراهام لينكون” على إرسال 500 ألف مجند لمساعدتهم، وبعد ذلك، أصبح ظاهرًا أنَّ الحرب لن تكون مجرد صراع محدود أو صغير.
الحرب الأهلية في فيرجينا
في ربيع عام 1862م، قام القائد جورج ماكليلان “George B. McClella” بنشر الجنود في شبه الجزيرة بين نهري يورك وجيمس، مستوليًا على مدينة يورك في الرابع من مايو، ومن ناحية أخرى، انتصرت القوات الكونفدرالية بقيادة “توماس جاكسون” و”روبرت لي (Robert E. Lee)” علي جيش ماكليلان في معركة السبع أيام (even Days’ Battles) في المدة ما بين 25 يونيو إلى 1 يوليو، ونتيجة لذلك تراجع الجيش، وطلب ماكليلان من لينكون إرسال التعزيزات للتوجه إلى مدينة ريتشموند (Richmond)، ولكن لينكون رفض وقام بعزله من منصبه كقائد أعلى لقوات الاتحاد (قوات الشمال)، وعين القائد “هنري هاليك” بديلًا عنه.
في التاسع والعشرين من أغسطس، قامت قوات الاتحاد بقيادة القائد “جون بوب (John Pope )” بالهجوم على قوات جاكسون في معركة بول رن الثانية، ولكن في اليوم التالي قامت قوات لي بالرد والهجوم على الجناح الأيسر لقوات الاتحاد ودفعهم إلى الانسحاب إلى العاصمة واشنطن، وعلى أعقاب انتصار الكونفدراليين الأخير قام لي بمحاولة اقتحام الولايات الشمالية، وخلافًا لأوامر لينكون وهاليك، قام ماكليلان بإعادة تنظيم جيشه، والهجوم على لي في 14 سبتمبر في ولاية مريلاند، وتراجعهم إلى وضعية الدفاع في وادي هاجرستاون بالقرب من مدينة شاربسبورغ (Sharpsburg).
وفي 17 من سبتمبر، اشتبكت القوتان في معركة شاربسبورغ، التي تعتبر من أعنف المعارك في هذه الحرب الأهلية، وأكثر يوم إسالة للدماء، وحُسمت بانتصار قوات الاتحاد على الجنوب في تلك المعركة أدى إلى تقهقر قوات الجنوب إلى فرجينيا.
إعلان تحرير العبيد
استغل الرئيس لينكون فرصة انتصار قوات الشمال في المعركة لكي يُصدر إعلان تحرير العبيد, والذي بمقتضاه تم تحرير جميع العبيد قانونيًا، بدءًا من تاريخ 1 يناير 1863م، وقام بتبرير قراره أنه وقت حرب، ونتيجة لذلك حرم الولايات الجنوبية من العمالة الضخمة لديهم، ووُجِّه الرأي العام لدعم ولايات الاتحاد.
وفي ربيع 1863م، فشلت خطة قوات الاتحاد -للهجوم بواسطة “القائد هوكر”- بسبب هجوم مفاجئ من قوات الجنوب قام به “القائد لي” في الأول من مايو، وفي “معركة شنسلورسفيل (Battle of Chancellorsville)” والتي تعد من أشرس معارك الحرب الأهلية؛ حيث فقدت القوات الكونفدرالية 22% من جيشها وفقدت قوات الاتحاد 15% من جيشها، حاول القائد لي مرة أخرى اقتحام ولايات الشمال في شهر يونيو، وقام بالهجوم على الجيوش والتي كانت بقيادة الجنرال “جورج ميد (George Meade)” وعلى مدى ثلاثة أيام من القتال العنيف، لم تستطع قوات الجنوب الاقتحام، ووصلت خسارتها إلى ما يقارب الــ60%.
وكانت نقطة التحول في الحرب على الجهة الغربية، عندما استطاعت قوات الاتحاد السيطرة على مدينة فيكسبيرغ (Vicksburg) بولاية ميسسبي، بقيادة الجنرال يوليسيس جرانت (Ulysses S. Grant) نتيجة لحصار فيكسبيرغ.
نحو انتصار قوات الاتحاد
في مارس عام 1864م، عُيِّن “لينكون جرانت” كقائد أعلى لقوات الشمال بدلًا من هاليك، وقام بترك “ويليام شيرمان (William Tecumseh Sherman)” كقائد في الغرب.
قام جرانت بالتوجه إلى واشنطن، حيث قاد الجيش لمواجهة قوات لي في شمالي فيرجينيا، وقام بفرض حصار على مدينة بطرسبرغ بولاية فيرجينا لمدة تسعة أشهر.
وفي سبتمبر، تفوقت القوات الكونفدرالية على قوات الاتحاد، وسيطرت على أتلانتا في شهر سبتمبر، وكان رد شيرمان أن بدأ هو وحوالي 60 ألف جندي من قوات الاتحاد المسيرة الشهيرة “المسيرة إلى البحر”، مدمرًا جورجيا، ومستوليًا على سفانا في يوم 21 من ديسمبر، وفي منتصف شهر فبراير كان قد استولى على كولومبيا وتشارلستون بولاية جنوب كارولينا، وقام رئيس الولايات الكونفدرالية “جيفيرسون ديفيس (Jefferson Davis)” بتسليم -متأخرًا- القيادة العليا لقوات الجنوب إلي القائد لي، وكانت قوات الكونفدرلية قد اُستُنزفت بشدة.
في منتصف أبريل، كان قد استولى شيرمان على عدد من الولايات الأخرى، مثل: جنوب كارولينا، وغيرها.
نهاية الحرب واغتيال الرئيس
وفي تلك الأثناء، كانت بطرسبرغ وريتشموند قد أُنهكتا من الحصار، وفي الخامس والعشرين من مارس قامت قوات لي بآخر محاولة للمقاومة، وكان ذلك في “معركة قلعة ستيدمان (Battle of Fort Stedman)”، ولكنها انسحبت من ريتشموند في ليالي الثاني والثالث من أبريل.
وعلي مدار الأسبوع التالي، طارد جرانت وميد القوات على امتداد نهر أبوماتكس (Appomattox Rive)، وعندما استنفذوا محاولاتهم للهرب، استسلم قائد القوات الكونفدرالية في التاسع من أبريل في دار محكم أبوماتوكس، وبذلك تكون انتهت الحرب الأهلية وانتصر الشمال على الجنوب.
ولكن لم تدم الفرحة طويلًا، حيث تم اغتيال “الرئيس لينكون” في 14 من أبريل في مسرح فورد في العاصمة واشنطن على يد الممثل “جون ويلكس بوث (John Wilkes Booth)”.
من فوائد هذه الحرب تكوين أمة قوية خالية من العبودية، وهو أول الطريق الذي أدَّى إلى أن تكون أمريكا كما نعرفها اليوم، ولكن كان ثمن ذلك غاليًا جدًا، وهو مقتل 620.000 من أصل 2.4 مليون جندي، وإصابة ملايين، ودمار أجزاء كبيرة من ولايات الجنوب.
كتابة: عبدالرحمن ناجح
مراجعة: آية ياسر
تحرير: شيماء ربيع