كيف انتقل التراث اليوناني إلى العالم الإسلامي؟
يبدو أنّ الفُرس كانوا أقدم من العرب في معرفتهم بالتراث اليوناني، إذ بدأت حركة الترجمة اليونانية والفارسية إلى اللغة العربية لمّا امتدت الفتوحات الإسلامية إلى هذه البلاد الفارسية.
ونذكر في هذا الصدد “عبد الله ابن المقفع” الذي نقل شيء من كتب المنطق والطب إلى اللغة العربية، وترجم من جملة ما ترجم “كليلة ودمنة”، وكتاب “مزدك”، وكتاب “الأدب الكبير والأدب الصغير”، وكتاب “اليتيمة”.
على أنّ أول محاولة جادة لترجمة الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية هي تلك التي قام بها “خالد بن يزيد بن معاوية” الذي سُمّي “حكيم آل مروان”.
ذكر ابن النديم في فهرسه أنّ خالدًا كان فاضلًا في نفسه وله همة ومحبًا للعلوم، فقد أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان الذين تمكنوا من اللغة العربية وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربية وهذا -كما قال ابن النديم- أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.
اهتم كذلك “المأمون” بالترجمة -إلى حد كبير- وكان بينه وبين ملك الروم مراسلات وعلاقات، فطلب من الملك أن ينقل ما لديه من علوم إلى اللغة العربية.
وأرسل المأمون فريقًا كاملًا من المترجمين منهم “الحجاج بن مطر” و”ابن بطريق” صاحب بيت الحكمة وغيرهم، ثم جاء من بعدهم تلاميذهم، حيث قادوا حركة الترجمة بهمة.
فقد قام “زيد بن حنين بن إسحاق” بترجمة بعض الأعمال الهامة هو وابنه إسحاق، من هذه الأعمال مؤلفات إقليدس وبقراط وجالينيوس وأرشميدس و أبولونيوس، وكذلك ترجمة الجمهورية لأفلاطون، والمقاولات والطبيعيات والأخلاق الكبرى لأرسطو، كما تُرجمت الأناجيل الأربعة إلى العربية.
وذكر صاحب الفهرست أن “حنين بن إسحاق” قد أُرسل في بعثة إلى الروم للحصول على أمهات الكتب.
خلاصة ذلك كله أن الفلسفة اليونانية كانت منتشرة في العراق والشام والإسكندرية، حيث انتشرت فيهم المدارس على يد السريانيين، وهذه المدارس وهذه التعاليم أصبحت تحت حكم المسلمين، فامتزج هؤلاء المحكومون بالحاكمين، وكانت نتائج هذا أن تشعبت هذه التعاليم في المملكة الإسلامية وتزوجت العقول المختلفة، فنتج عن هذا التزاوج الثقافة العربية أو الإسلامية، وتفتقت المذاهب الدينية والفلسفة الإسلامية والحركات العلمية والفنون الأدبية.
لماذا لم يؤثر هذا التراث في العرب؟
نظرًا للحالة المعيشية التي اعتادها العرب، فإنها حالت بينهم وبين التأثُر أو التعلُّم من هذه الثقافات المتنوعة، وتجعلهم دائمًا في عدم استقرار وتوتر وتمسك بسلوك معين.
صَعُب على العربي محاكاة الأمم المجاورة في عاداتها وتقاليدها، وهو على هذه الحالة من التوتر والترحال والخصائص السلوكية التي اكتسبها من الطبيعة البيئية التي عاش فيها.
لم تكن تلك خصائص فطرية في الشخصية أو في عقلية الإنسان العربي وليس مولودًا بها.
فالحق أن أي شعب لو مر بعين الظروف التي مر بها العربي لكان شأنه شأن العرب في بداوتهم وغلظتهم، ولذلك فنحن نتفق مع أحمد أمين أن ما يسمى الوراثة ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، ولو كانت هناك أي أمة أخرى في مثل بيئتهم لكان لها مثل عقليتهم.
أكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من التشابه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة.
ورغم هذه الصلابة والغلظة، إلا أننا نجد أن العرب قد تفاوتوا في تقبلهم هذه الثقافات بشكل يختلف من طبقة إلى أخرى، ومن فرد إلى فرد أيضًا باختلاف الظروف التي يمر بها كل فرد أو كل قبيلة، فليس معنى أن العرب لم يتأثروا بكل ما ورد عليهم من ثقافات أنّ عقلياتهم كانت واحدة.
فقد ذهب “الشهرستاني” إلى حصر أصناف العرب قبل الإسلام في ثلاثة أصناف:
1-منكرو الخالق والبعث
أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بأن الطبيعة أساس الحياة، وأن الدهر هو سبب الفناء، وهم الذين أخبر عنهم القرآن بقوله “وقالوا ما هِيَ إلا حياتُنا الدنيا نموتُ ونحيا” إشارة منه إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي، وقصرًا للحياة والموت على ترَكبها وتحلُّلها، فالجامع هو الطبيعة والمهلك هو الدهر، “وما يُهلِكُنا إلا الدَهْر وما لهم بذلك من علم إنْ هم إلا يَظُنّون” فاستدل عليهم بضرورات فكرية وآيات نظرية، فقال تعالى: “أَوَلَمْ يتفكروا ما بِصَاحِبِهِم مِنْ جِنَّة إنْ هُوَ إلَّا نذيرٌ مُّبِينٌ”.
2- منكرو البعث والإعادة
هؤلاء مجموعة أقروا بالخلق والابتداء، لكنّهم أنكروا البعث والإعادة، وهم الذين أخبر عنهم القرآن بقوله “وضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ” فاستدل عليهم بالنشأة الأولى لأنهم اعترفوا بالخلق الأول، فقال عز وجل “قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة” وقال “أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ”.
3- منكرواالرُسُل
وهم عُبّاد الأصنام، أقروا بالخالق والابتداء ونوع من الإعادة، وزعموا أنهم شفعاء لهم عند الله، وسجدوا لها ونحروا لها وقدّموا إليها القرابين، وأحلّوا وحرّموا بها، وقد أخبر عنهم القرآن “وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْواقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا” وقال الله تعالى “ومَا أرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلَّا إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَعَامَ ويَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ”.
وعلى ضوءِ هذا التصنيف وكل ما ذكرناه، يتضح لنا أنّ العرب لم يكونوا جاهلين بالمعنى المألوف الآن للفظ كما كنا نتصور، فقد كانوا على علم بثقافات عصرِهم وكان لديهم أيضًا قدر من التوحيد.
وذلك لأن الشرك بالله أمرٌ لا يمكن فهمه إلا من خلال وجود فكرة التوحيد ذاتها، وقد كان العرب قديمًا موحِدين على ملة إبراهيم وإسماعيل، وكانوا يطوفون بالبيت العتيق الذي يُعد أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله.
ومع كثرة ذرية إسماعيل، وبسبب بعدهم عن هذا البيت، كانوا يطلبون بعض الحجارة من مبنى الكعبة في غربتهم عنه كي يطوفوا حولها، فتلاشت فكرة التوحيد شيئًا فشيئًا، وبدأ الشرك بالله وعبادة الموجودات والتقرُّب بالأصنام والمعبودات الأخرى.
تعرضنا في هذا المقال لفكرة لم يألفْها الكثير حول طبيعة العرب قبل الإسلام، ومدى تفاوتهم واختلافهم في تلقي وقبول الثقافات والديانات الأخرى.
فكما أشرنا أن العرب لم يكونوا جميعهم على نفس النمط من التفكير وردة الفعل تجاه ما كان في عصرِهم من عقائد وتوجهات، كما أنّهم أيضًا أخذوا من تلك الثقافات بمقادير متباينة.
وفي الحديث عن نقل التراث اليوناني للعالم العربي قبل وبعد الإسلام، ذكرنا أهم العوامل والدوافع التي آلت لامتزاج الغربي بالشرقي وما نتج عن ذلك من فلسفات ومذاهب وتوجهات, وسنتناول كل هذه الفلسفات والمذاهب بشيء من التفصيل في اللاحق من موضوعاتِنا.
المصدر
كتاب” الفلسفة الإسلامية في المشرق” د/ فيصل بدير عون
كتابة: آيات أحمد
مراجعة: حماس عبد الغفار
تحرير: شيماء ربيع