التاريخ والأدب

لماذا انهار الاتحاد السوفييتي على الرغم من قوته؟

كان الاتحاد السوفيتي (Soviet Union) في الأول من يناير من العام 1991 أكبر دولة في العالم، حيث كان يغطي حوالي اثنين وعشرين مليون وأربعمائة ألف كم مربع (22,400,00) أي ما يقرب من سدس مساحة اليابسة على الكرة الأرضية، وضم 15 دولة، هم: أرمينيا، أذربيجان، بيلاروسيا، إستونيا، جورجيا، كازاخستان، قيرغيزستان، لاتفيا، ليتوانيا، مولدوفا، روسيا، طاجيكستان، تركمانستان، أوكرانيا، وأوزبكستان.
ووصل تعداده السكاني إلى أكثر من 290 مليون نسمة، وعاشت بين حدوده أكثر من 100 جنسية مختلفة. وقد كان الاتحاد السوفييتي يتباهى بامتلاكه ترسانة تحتوي على عشرات الآلاف من الأسلحة النووية، بالإضافة إلى نفوذه الذي يُمارس من خلال آليات مثل حلف وارسو (Warsaw Pact) الممتد في أنحاء أوروبا الشرقية، وفي خلال عام، انتهى وجود الاتحاد السوفييتي. وفي حين أنه من المستحيل تحديد سبب وحيد لحدث له مثل هذا التعقيد وبُعد المدى مثل تفكك قوى عظمى عالمية، إلا أن هناك عدة عوامل داخلية وخارجية لعبت دورًا في انهيار الاتحاد السوفيتي أو ال(U.S.S.R).

العامل السياسي

عندما وصل ميخائيل غورباتشوف (Mikhail Gorbachev) إلى منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي (CPSU) في الحادي عشر من مارس من العام 1985، كانت أهدافه الداخلية الأساسية هي إحياء الاقتصاد السوفييتي المُحتضر، وتجديد البيروقراطية الحكومية، ولكن عندما فشلت محاولاته الأولى في الإصلاح في جني ثمارها المرجوة، بدأ في تأسيس سياستي “الانفتاح” (Glasnost) التي كانت تهدف إلى تعزيز الحوار، و”إعادة الهيكلة” (Perestroika) بإدخال سياسات شبه سوق حرة إلى الصناعات التي تديرها الحكومة.
ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فعلى عكس أهدافها، تسببت سياسة الانفتاح في فتح النار على النظام السوفييتي بأكمله؛ ففقدت الدولة السيطرة على وسائل الإعلام والمجال العام، وازداد نفوذ الحركات الإصلاحية الديموقراطية في جميع أنحاء التحالف السوفيتي.
وقد أظهرت سياسة إعادة الهيكلة أسوأ ما في الأنظمة الرأسمالية والشيوعية، حيث تم رفع الرقابة على الأسعار في بعض الأسواق، ولكن ظل المسؤولون الشيوعيون قادرين على التراجع عن تلك السياسات إذا تعارضت مصالحهم الخاصة.

بحلول نهاية عام 1989، كانت المجرّ قد أزالت جدراها الحدودي مع النمسا، ووصلت حركة التضامن في بولندا إلى السلطة، كما أن دول البلطيق كانت تخطو خطوات ملموسة نحو الاستقلال، وتم إسقاط جدار برلين. وبسقوط الستار الحديدي (تسمية تطلق على الحاجز السياسي والعسكري والأيديولوجي الذي أقامه الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية، لعزل نفسه وحلفائه من الاتصال المفتوح مع الغرب ومناطق أخرى غير شيوعية) لم يكن الاتحاد السوفيتي ليصمد لفترة طويلة.

العامل الاقتصادي

وفقًا لبعض المقاييس، كان الاتحاد السوفيتي يحتل ثاني أكبر اقتصاد في العالم في عام 1990، ولكن كان النقص في السلع الاستهلاكية في ذلك الوقت أمرًا عاديًا، وكان الاكتناز أمرًا شائعًا، وقد قُدّر اقتصاد السوق السوداء بما يعادل 10% من إجمالي الناتج المحلي الرسمي للبلاد. وازداد الأمر سوءًا، حيث تسبب الركود الاقتصادي في عرقلة البلاد لسنوات. ولم تساعد إصلاحات جورباتشوف السابقة إلا في تفاقم الأزمة؛ إذ تم دعم ارتفاع الأجور من خلال طباعة النقود، مما أدى إلى ازدياد التضخم.
وبذلك، فإن سوء إدارة السياسة المالية قد جعل البلاد أكثر عرضة للمؤثرات الخارجية، كما أن الانخفاض الحاد في أسعار النفط أدى إلى تدهور الاقتصاد السوفيتي.
في خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، صُنف الاتحاد السوفيتي كواحد من أكبر منتجي ومصدري النفط والغاز الطبيعي في العالم. عندما انخفض سعر برميل النفط من 120 دولار في عام 1980 إلى 24 دولارًا في مارس 1986، أدى ذلك إلى جفاف شريان الحياة لرأس المال الخارجي، وارتفاع أسعار النفط بشكل مؤقت في أعقاب غزو العراق للكويت في أغسطس 1990. ولكن بحلول ذلك الوقت، كان الاتحاد السوفيتي قد بدأ في الانهيار بالفعل.

العامل العسكري

هناك اعتقاد شائع بأن إنفاق الدفاع السوفيتي قد تسارع بشكل كبير، بعد تولي رونالد ريغان الرئاسة وإطلاقه لمقترح حرب النجوم؛ وهو نظام دفاعي استراتيجي أمريكي مقترح ضد الهجمات النووية المحتملة من الاتحاد السوفيتي، ولأن أجزاء من النظام الدفاعي الذي دعا إليه ريغان ستكون متمركزة في الفضاء، أُطلق على النظام المقترح اسم “حرب النجوم”.
في الواقع، أخذت الميزانية العسكرية للاتحاد السوفيتي في الارتفاع منذ مطلع السبعينيات، وتراوحت التقديرات الخارجية للإنفاق العسكري السوفيتي ما بين 10 و20% من إجمالي الناتج المحلي، وحتى داخل الاتحاد السوفيتي كان من الصعب تقديم محاسبة دقيقة، حيث تضمنت الميزانية العسكرية مجموعة متنوعة من الوزارات الحكومية، لكل منها مصالحها المتنافسة.
ومع ذلك، يمكن القول بشكل قاطع أن الإنفاق العسكري كان غير مهتم بحالة الاقتصاد، إذ حتى مع تباطؤ الاقتصاد، ظل الجيش يتمتع بتمويل جيد. إضافةً إلى ذلك، كان الجيش له الأولوية فيما يتعلق بمواهب البحث والتطوير؛ حيث كان يتم إرسال المبتكرين التكنولوجيين، ورواد الأعمال -الذين كان بمقدورهم المساعدة في دعم رؤية غورباتشوف في الانتقال الجزئي نحو الاقتصاد- إلى الصناعات الدفاعية.

أفغانستان

بالإضافة إلى الأمور المتعلقة بالميزانية، كان التدخل السوفيتي في أفغانستان في الفترة بين (1979-1989) عاملًا عسكريًا رئيسيًا في تفكك الاتحاد السوفيتي، فالجيش السوفيتي الذي اشتهر بدوره في الحرب العالمية الثانية في صد هجمات هتلر والزحف على برلين، ودوره في قمع الثورة المجرّية وربيع براغ (فترة وجيزة من التحرر في تشيكوسلوفاكيا تحت قيادة ألكسندر دوبتشيك في عام 1968) وجد نفسه في شرك “مقبرة الإمبراطوريات”، أفغانستان.
شارك في احتلال أفغانستان الذي دام عشر سنوات حوالي مليون جندي سوفيتي، قُتل منهم ما يقرب من خمسة عشر ألف، بالإضافة إلى آلاف الجرحى. أما بالنسبة للأفغان، فقد قُتل أكثر من مليون أفغاني -معظمهم من المدنيين- وتهجير أربعة ملايين على الأقل إلى الخارج بسبب الحرب. وهُزم الجيش الذي هزم هتلر، وسحق المعارضة في الحرب الباردة (Cold War) من قِبل المجاهدين الأفغان المسلحين بأسلحة أمريكية.
تم إخراس المعارضة السوفيتية بشأن حرب أفغانستان، وذلك بسبب سيطرة الحكومة على الصحافة، ولكن سياسة الانفتاح فتحت الباب أمام التعبير عن سأم واسع من الحرب. وأخذ الجيش، الذي كان أقوى معارض لإصلاحات غورباتشوف، وضع الدفاع بسبب المأزق في أفغانستان وفقد نفوذه.
شعر الكثير من الجنود من جمهوريات آسيا الوسطى بوجود روابط عرقية ودينية مع الأفغان أوثق من تلك التي مع الروس، فاندلعت على إثر ذلك الاحتجاجات التي تندد بالحرب. أما في أوروبا، فقد كان الانقسام مع موسكو أكثر حدة؛ فاندلعت المظاهرات المناهضة للحرب في أوكرانيا، بينما نظرت قوى المعارضة في البلطيق إلى الحرب في أفغانستان على أنها تشبه الاحتلال الروسي لبلدانها، مما أدى إلى تأجيج الحركات الانفصالية، التي تقدمت دون وجود رادع، إلى إعلان الاستقلال من قِبل دول البلطيق الثلاث في عام 1990.

العامل الاجتماعي

في 31 يناير عام 1990 افتتحت سلسلة ماكدونالدز أول مطعم لها في موسكو. وظهرت صورة الأقواس الذهبية (شعار ماكدونالدز) في ميدان بوشكين، وكأنها انتصار للرأسمالية الغربية، حيث اصطف العملاء لتذوق أول وجبة بيج ماك (Big Mac). ولكن مثل هذا المشهد لم يكن غير مألوف في السنوات الأخيرة من الاتحاد السوفيتي، إذ اصطف سكان موسكو في طوابير طويلة من أجل الإصدارات الصباحية من الصحف الليبرالية.
لقد أثارت سياسة الانفتاح هوجة من المفاهيم والأفكار والخبرات الجديدة، كان السوفيتون متحمسين لاستكشافها، حيث تكالبوا على قراءة مقالات عن التحول الديموقراطي لكبار الفلاسفة السياسيين، أو تجربة الاقتصاد الحر عن طريق مطاعم الوجبات السريعة الغربية.
كان عامة الشعب السوفيتي يشعر بالاشمئزاز من انتشار الفساد في الدولة السوفيتية. ولم يكن الغرض من سياستي الانفتاح وإعادة الهيكلة سوى إحداث تغيير في الروح السوفيتية، أي عقد اتفاق جديد بين النظام السوفيتي وشعبه. وفي النهاية، أثبت التوتر بين الواصلين للسلطة حديثًا، والدولة السوفيتية التي فقدت مصداقيتها، أنه أمر يصعب التغلب عليه. كما أدت محاولة الانقلاب الأخيرة التي قام بها المتشددون الشيوعيون إلى تحطيم الاتحاد السوفيتي.

العامل النووي

طوال الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يلوّحان بدمار نووي متبادل. ومع ذلك، لم يتخيل الكثير أن سقوط الاتحاد السوفيتي سيكون بسبب حادث بمحطة نووية مدنية. كان غورباتشوف في السلطة لما يزيد عن عام عندما انفجر مفاعل الوحدة رقم 4 في محطة تشيرنوبيل لتوليد الطاقة بمنطقة بريبيات (في أوكرانيا) في السادس والعشرين من أبريل عام 1986، أطلق الانفجار والحرائق التي تبعته أكثر من 400 ضعف كمية الإشعاعات الناتجة عن القنبلة الذرية التي أُطلقت على هيروشيما! كان الرد الرسمي على هذه الكارثة سيكون بمثابة اختبار لعقيدة الانفتاح التي أسسها غورباتشوف.
ولكن -وعلى عكس ما يدعون إليه من انفتاح للحوار والشفافية- قام مسؤولو الحزب الشيوعي بالتكتم عن أي معلومات حول هذه الكارثة، حتى أنهم أمروا باستمرار احتفالات عيد العمال في المنطقة المتضررة من الانفجار كما هو مخطط لها، على الرغم من المخاطر المعروفة للتعرض للإشعاع.
تم إنكار التقارير الغربية حول مستويات النشاط الإشعاعي المرتفعة بشكل خطير، والتي تنتقل عن طريق الرياح باعتبارها مجرد إشاعات، وأخيرًا، تمكن العمال من السيطرة على التسرب الإشعاعي في الرابع من مايو، لكن لم يصدر غورباتشوف أي بيان رسمي حتى الرابع عشر من مايو، أي بعد ثمانية عشر يومًا من الكارثة، وفيه وصف الحادث بأنه “مصيبة”، كما أنه سخر من تغطية وسائل الإعلام الغربية قائلًا أنها: “حملة غير أخلاقية من الأكاذيب الخبيثة”.
بمرور الوقت، كانت المعلومات التي يروج لها الحزب الشيوعي في خلاف متزايد مع أولئك الذين كانوا يتعاملون مع الآثار الجسدية للتسمم الإشعاعي في منطقة التلوث بشكل يومي، مما ساهم في تحطيم الثقة المتبقية في الحزب الشيوعي. وبعد عقود من الكارثة، احتفل غورباتشوف بالذكرى السنوية لكارثة تشيرنوبيل بالقول: “ربما كان تشيرنوبيل هو السبب الحقيقي في انهيار الاتحاد السوفيتي بعد خمس سنوات”.

المصدر

كتابة: علياء ياسر

مراجعة: ياسمين محمد

تحرير: إسراء وصفي

اظهر المزيد

الجرعة اليومية من العلوم

مؤسسة علمية تطوعية هدفها نشر وتبسيط العلوم، وإثراء المحتوى العربي العلمي عبر الإنترنت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى