ضوء مشوه خلف الثقب الأسود!
الثقوب السوداء هي مناطق في الزمكان (نسيج الكون) يكون فيها سحب الجاذبية قويًا جدًا لدرجة أنه حتى الضوء لا يستطيع العبور من خلاله، ومع ذلك، في حين أن الضوء لا يستطيع الهروب من الثقب الأسود، فإن جاذبية الثقب الأسود تشوِّه الفضاء المُحيط به، مما يسمح للضوء بالارتداد مرة أخرى، والانحناء حول الجزء الخلفي من الجسم حينها يطلق عليه ضوء مشوه خلف الثقب الأسود.
بفضل هذه الظاهرة الغريبة، لاحظ علماء الفلك لأول مرة الضوء من خلف ثقب أسود.
قال دان ويلكينز (Dan Wilkins) عالم أبحاث في معهد كافلي للفيزياء الفلكية وعلم الكونيات بجامعة ستانفورد، في بيان:
“أي ضوء يدخل إلى هذا الثقب الأسود لا يخرج، لذا لا ينبغي أن نكون قادرين على رؤية أي شيء خلف الثقب الأسود”،
“السبب الذي يمكننا من رؤيته هو أن الثقب الأسود يقوم بتشويه الفضاء، وثني الضوء، ولف الحقول المغناطيسية حول نفسه.”
ومع ذلك، فقد تنبَّأ أينشتاين بقُدرة جاذبية الثقب الأسود على ثني الضوء حوله في عام 1916.
كيف تمّ اكتشاف الضوء؟
يبلغ حجم الثقب الأسود حوالي 10 ملايين مرة كتلة شمسنا، ويقع في مركز مجرة حلزونية قريبة تسمَّى I Zwicky، على بعد 1800 مليون سنة ضوئية من الأرض.
في دراسة جديدة استخدم الباحثون بقيادة دان ويلكينز تلسكوبات الفضاء XMM-Newton التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، و NuSTAR التابعة لوكالة ناسا لمُراقبة الضوء من خلف ثقب أسود أكبر بعشرة ملايين مرة من تلسكوباتنا الفضائية.
اكتشف الفريق توهُجًا للأشعة السينية في I Zwicky 1 كان شديد السطوع، لدرجة أن بعض الضوء ينعكس على الغاز المُتساقط في الثقب الأسود، وعندما انعكس الضوء حول الجزء الخلفي من الثقب الأسود بفعل الجاذبية الشديدة للجسم تمكَّن الفريق من رصده آنذاك.
ظهور الضوء
يتعرّض المجال المغناطيسي للالتواء لدرجة أنه يستقر ويعيد الاتصال -وهي عملية تطلق انفجارات بركانية قوية على الشمس- في الثقب الأسود.
يعمل الإكليل مثل السنكروترون لتسريع الإلكترونات إلى مثل هذه الطاقات العالية، بحيث تتألق بشكل ساطع في أطوال موجات الأشعة السينية.
تقوم بعض فوتونات الأشعة السينية بتشعيع قرص التنامي وإعادة معالجتها، عبر عمليات مثل الامتصاص الكهروضوئي والفلورة، ثم إعادة إرسالها فيما يسمى “صدى الارتداد”، ويشار إليه باسم “الانعكاس” في الأشعة السينية.
يمكن استخدام انبعاث الانعكاس هذا لرسم خريطة للمنطقة الأقرب إلى أفق الحدث للثقب الأسود.
أدرك ويلكنز أن هذه كانت متسقة مع الانعكاسات القادمة من خلف الثقب الأسود، مع انحناء مساراتها حول الجسم الهائل من خلال مجال الجاذبية القوي بشكل لا يصدَّق، وضوءها مكبّر.
لم يقصد علماء الفلك في الأصل تأكيد نظرية أينشتاين، التي تمت صياغتها منذ أكثر من 100 عام في عام 1916.
بدلًا من ذلك، كانوا يأملون في استخدام تلسكوبات الفضاء XMM-Newton و NuSTAR للنظر في الضوء المنبعث من سحابة السوبر -الجسيمات الساخنة التي تتشكل خارج نقطة اللاعودة للثقب الأسود أو أفق الحدث- حيث تلتف السحابة فائقة الحرارة “أو الإكليل” حول الثقب الأسود وتسخن عندما تسقط فيه.
يمكن أن تصل درجات الحرارة في الإكليل إلى ملايين الدرجات -وذلك وِفقًا للباحثين- مما يحوّل سحابة الجُسيمات إلى بلازما ممغنطة مثل الإلكترونات الممزقة من الذرات.
يحدث أن يتسبب دوران الثقب الأسود في جعل المجال المغناطيسي المشترك للبلازما الإكليلية قوسًا عاليًا فوق الثقب الأسود، ثم ينفجر في النهاية، مما يؤدي إلى إطلاق الأشعة السينية من الإكليل نتيجة لذلك.
دور الأشعة السينية
خارج أفق الحدث للثقب الأسود النشط، تنبعث التوهجات الساطعة لضوء الأشعة السينية من الغاز الذي يسقط في الثقوب السوداء من أقراص تراكمها -وهي أقراص الغبار والغاز التي تحيط بهذه الأجسام وتغذيها- حيث داخل الحافة الداخلية لقرص التراكم، ستجد الهالة -وهي منطقة من الإلكترونات تسخنها الجاذبية الهائلة للثقب الأسود إلى درجات حرارة تصل إلى مليار درجة.
حيث كان الفريق في الأصل يبحث في كيفية إنتاجها للأشعة السينية في التوهُجات، فذلك يبدو مشابهًا لما يحدث على سطح الشمس (تسمَّى الطبقة الخارجية منها الهالة).
أثناء التحقيق في أصل هذه التوهجات، لاحظوا مجموعة من الومضات الأصغر، حيث يحتوي الثقب الأسود النشط مثل I Zw 1 أيضًا على قرص تراكُم، فعندما يصبح هذا القرص ساخنًا بشكل لا يصدَّق بسبب تأثيرات المجال الاحتكاك المغناطيسي -وهو شديد الحرارة بحيث يتم تجريد الإلكترونات من الذرات وتشكيل بلازما ممغنطة-.
يقول الفريق أن هذه هي نفس الأشعة السينية ولكنها تنعكس من خلف القرص الدوار الساخن، حيث تنحرف المجالات المغناطيسية بعيدًا عن الثقب الأسود في حلقات ضخمة، ثم تلتف وتلتقط وتنفجر في ومضات ساطعة من ضوء الأشعة السينية.
بدأت هذه الدراسة برغبة الباحثين في توسيع فهمنا لإكليونات الثقب الأسود، والتي هي مصدر ضوء الأشعة السينية الذي يشع غالبًا من جوار هذه الأجسام.
تطبيق نظرية أينشتاين
سرعان ما أدرك الباحثون أن الأصداء (الانعكاس) كانت تأتي من خلف الثقب الأسود الهائل، وِفقًا لنظرية أينشتاين للنسبية العامة، والتي أثبت فيها كيف يمكن للأجسام الضخمة (مثل الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية) أن تشوّه الزمكان.
مما يسمح للضوء بالسفر حول الثقب الأسود بدلًا من الاستمرار بطريقة خطية، حيث ينحني الزمكان حولها، مما يؤدي إلى إنشاء مسارات منحنية يجب أن تتبعها الكائنات الأخرى أثناء انتقالها، وقال أينشتاين حينئذ: “هذه هي الجاذبية”.
من هنا، اكتشف أينشتاين أن الجاذبية لا تنتُج عن قوة غير مرئية، ولكنها ببساطة تجربتنا في انحناء الزمكان والتشويه في وجود المادة والطاقة.
حيث أن هذا الثقب الأسود المحدّد، الذي يبعد 800 مليون سنة ضوئية، يشوّه الفضاء لدرجة أن علماء الفلك يمكن أن يروا انفجارات الأشعة السينية تومض خلفه.
نتيجة ذلك؛ لم يرصد الفريق هذا الضوء فقط، فهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها ملاحظة هذا الضوء بشكل مباشر على هذا النحو؛ كما لاحظوا كيف تَغيَّر لون ضوء الأشعة السينية أثناء ثنيه وتحركه حول الجزء الخلفي من الثقب الأسود.
فمن خلال مراقبة رحلة الضوء حول الجزء الخلفي من الثقب الأسود، يأمل الباحثون في فهم المزيد حول ما يحدث بالفعل بالقرب من دوامات الجاذبية هذه.
بعد هذه الدراسة الرائدة، يهدُف الفريق إلى إنشاء خريطة ثلاثية الأبعاد لمُحيط الثقب الأسود.
إنهم يأملون أيضًا في فهم أكليونات الثقب الأسود بشكل أفضل، واستكشاف كيف أن هالة الثقب الأسود قادرة على إنتاج توهُجات الأشعة السينية الساطعة هذه.
يأمل ويلكنز في مواصلة دراسة الهالات السوداء باستخدام مرصد مستقبلي للأشعة السينية في الفضاء، وهو التلسكوب المتقدم للفيزياء الفلكية عالية الطاقة (Athena)، فلايزال التلسكوب في مرحلة التطوير المبكرة؛ حيث تخطط وكالة الفضاء الأوروبية لإطلاقه في مدار حول الأرض في عام 2031.
وإنه لمن دواعي السرور مرة أخرى تأكيد تنبؤ رئيسي آخر للنسبية العامة.
كتابة: آية عادل
مراجعة: سارة محمد
تحرير: أسماء مالك
تصميم: أحمد عبد الستار