حجر رشيد، العصا السحرية التي أنطقت جدران المعابد.
بلغت الحضارة الفرعونية مبلغ النجوم في القوة والازدهار، لكنها اندثرت تمامًا في طي المجهول باندثار اللغة الهيروغليفية، وتعرضت المقابر والآثار المصرية للسرقة من قبل المستكشفين الذين أدركوا أن تلك القطع ذات قيمة جمالية، ولكن لم يعرفوا مقدار تلك القيمة ولا عظمة ما يتلفونه؛ نظرًا لأن السجلات التاريخية والمعالم الأثرية قد تم نقشها بالهيروغليفية، لغة ميتة لم يقدر أحد سواء مصري أو أجنبي على قراءتها. حتى تم اكتشاف حجر رشيد، وفك رموزه على يد العالم الفرنسي فرانسوا شامبليون.
ما سبب اندثار اللغة الهيروغليفية؟
كانت الكتابة الهيروغليفية مقدّسة رسمية، ومخصصة للمعاملات الدينية والحكومية، واستُخدمت للتدوين على جدران المقابر والمعابد والآثار الأخرى، ولكنها كانت معقدة بعض الشيء، لذلك؛ طور المصريون نسخة أبسط منها وهي اللغة الهيراطيقية، واستُخدمت لتسجيل بعض المراسيم الحكومية والمعاملات التجارية، لكنها لم تستخدم لأغراض دينية.
بحلول العصر البطلمي، شاع استخدام اللغة الديموطيقية، والتي تُعد نسخة أبسط من الهيروغليفية.
إبان تلك الحقبة، بدأ نقش حجر رشيد، وكُلِّف الكهنة بالكتابة بثلاث لغات: الإغريقية، والهيروغليفية، والديموطيقية.
ومع دخول المسيحية مصر، تم التخلي عن الكتابة الهيروغليفية؛ لارتباطها بعبادة الآلهة الوثنية، مما يتنافى مع العقيدة المسيحية، أما اللغة الديموطيقية، تطورت في النهاية إلى اللغة القبطية، وهكذا بمرور الأزمنة والحُكّام بدأت الهيروغليفية بالتلاشي والتحلل شيئًا فشيء، حتى نصل للحقبة العربية والفتح الإسلامي، وبحلول اللغة العربية محل القبطية، وزيادة الناطقين بها، انقطع آخر خيط يربط المصريين باللغة الهيروغليفية.
وبضياع اللغة ضاعت الحضارة المصرية، ولم يعد للمعابد المقدسة المكتوب على حوائطها بالهيروغليفية أي معنى للمصريين أو الحكّام، وتم هدم بعضها للحصول على المواد الخام للمباني الجديدة، ومن بين الأنقاض ظهر حجر رشيد “Rosetta Stone”.
رُبَّ صدفة خير من ألف ميعاد!
في يوليو 1799م، قدمت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة الجنرال نابليون بونابرت، وأثناء تواجد بعض أفراد الحملة في منطقة رشيد بدلتا النيل، أثناء بناء طابية (قلعة) رشيد، اكتشف الجنود قطعة حجرية كبيرة وثقيلة من البازلت الأسود، وعلى سطحها العديد من النقوش، والتي تم إرسالها إلى المركز ومنه إلى باريس.
تم إنشاء العديد من النسخ من ذلك الحجر (والذي كان قرارًا موفقًا للفرنسيين؛ فقد خدمتهم تلك النسخ بشكل جيد، بعد أن حصل البريطانيون على الحجر الأصلي -إلى جانب العديد من القطع الأثرية الأخرى- بموجب الشروط المنصوص عليها في معاهدة الاستسلام) انتقل الحجر إلى أيدي البريطانيين، وتم التبرع به رسميًا للمتحف البريطاني في يونيو 1802م.
مواصفات حجر رشيد:
هو لوحة رمادية غير مكتملة باللونين الرمادي والوردي، تعود لعام 196 ق.م، والتي تُقدِّم مرسومًا كهنوتيًا بشأن الملك بطليموس الخامس ملك مصر، النص يحتوي على نصوص بثلاث لغات، هي: الهيروغليفية، والديموطيقية، والإغريقية. النص الهيروغليفي مؤلف من 14خطًا، والديموطيقي من 32 خطًا، والإغريقي من 54 خطًا.
يبلغ قياس الحجر 112.2×75.7 سم، ويبلغ سمكه 28.4 سم بحجم 680 كجم تقريبًا، ونظرًا لأن أجزاء من اللوحة مفقودة، لا سيما الزوايا العلوية والزاوية اليمنى السفلية، لم تكتمل النصوص.
نص حجر رشيد:
وهو عبارة عن مرسوم صادر من مجلس ممفيس الكهنوتي. يبدأ المرسوم بمدح طويل لإنجازات الحاكم الرشيد بطليموس الخامس، الذي جلب ازدهارًا كبيرًا لمصر، واستثمر مبالغ كبيرة من المال على المعابد في ترميم القديم منها وبناء معابد جديدة، وقدَّم الحبوب للشعب، كما أمر بتخفيض بل وحتى إلغاء الضرائب، وتم الإفراج عن العديد من السجناء الذين كانوا يُعتبرون في السابق أعداء للدولة. كما قام الملك بقمع أعداء مصر.
ولتكريم كل هذه الأعمال المجيدة؛ سيتم إنشاء تمثال للملك يرتدي عشرة أكاليل ذهبية في جميع المعابد، وتحمل تلك التماثيل لقب “بطليموس المدافع عن مصر”، ويزورها الكهنة ثلاث مرات في اليوم.
ويتم منحه درجة الإله، ويُلقب ب”الإله بطليموس الظاهر” أو “الرحيم” و”محبوب الإله بتاح”، كما تم جعل يوم ميلاده ويوم تتويجه أعيادًا قومية، تُقدَّم فيها الأضاحي والقرابين والولائم. وتم اختتام النص بالتنويه على أنه يجب كتابة هذه المراسيم بالحجارة بثلاثة نصوص، الكتابة الهيروغليفية، والديموطيقية، والإغريقية؛ حتى يقرأه القاصي والداني.
رحلة فك شفرة حجر رشيد:
كان لوجود النصين الديموطيقي والإغريقي فضل كبير في ترجمة الطلاسم الهيروغليفية، فكانت تمثل تلك النصوص مرجعًا للترجمة، كون النصوص الثلاث هي نصٌ واحد بلغات مختلفة.
تمت ترجمة النص الإغريقي عن طريق القس ستيفن ويستون (Reverend Stephen Weston)، كما ساهم كل من المستشرق الفرنسي سيلفستر دي ساسي Antoine-Isaac Silvestre de Sacy)، والدبلوماسي السويدي “يوهان ديفيد سكربلاد” (Johan David Åkerblad) في ترجمة الكلمات المكتوبة باللغة الديموطيقية.
كانت الصعوبة الفعلية في فك رموز اللغة الهيروغليفية، وتحوَّل الأمر إلى مضمار سباق بين بريطانيا بممثلها توماس يونغ (Thomas Young)، وفرنسا بممثلها جان فرانسوا شامبليون (Jean-Francois Champollion).
الخطوة الأولى كانت عن طريق يونج، والذي اكتشف ما يسمى بالخرطوشة (نعم عزيزي القارئ، تخمينك صحيح، سُميت باسم رصاص الخرطوش نظرًا للتشابه بينهما) وهي المربع الذي كان يكتب فيه اسم الملك المصري وبعض الألقاب الملكية، وحتى نهاية حكم الفراعنة والبطالمة، كان يُكتَب اسمان فقط داخل خرطوشين، الاسم الشخصي، واسم التتويج، وبذلك تم تمييز الأعلام، وبدأ شامبليون من حيث انتهى يونج.
السبق في فك حجر رشيد كان حليف فرنسا:
كان شامبليون منذ حداثة سنه مفتونًا باللغة الهيروغليفية، وأعلن أنه سيكون أول من يفك رموزها، فلا عجب من انبهاره بشدة عند سماعه قصص اكتشاف حجر رشيد، وقرر خوض السباق.
في عام 1822م، حصل شامبليون على بعض الخراطيش القديمة جدًا، بدأ مع خرطوشة قصيرة تحتوي على أربعة أحرف كان آخرهما متطابقين، قام بتحدي الرموز على أنهما الحرف (S).
بفحص الحرف الأول الذي كان يمثل الشمس، واستنادًا إلى اللغة القبطية (والتي ترجع جذورها للهيروغليفية كما ذكرنا) فإن رمز الشمس يُنطق (Ra)، ومن خلال تهجئة خرطوشة صوتيًا ينتج المقطع (RA-SS)، وهنا لمع في عقل شامبليون اسمًا واحدًا فقط يناسب المقطع وهو (رمسيس). يُحكى أن شامبليون كان قد غمره فيض من السعادة لاكتشافه؛ لدرجة أنه أغمى عليه على الفور! وبعدها تتابع فك الرموز.
العصا السحرية التي أنطقت جدران المعابد:
قديمًا، كانت مصر محط إعجاب الغرب كونها قديمة وعتيقة ليس إلا، ولكن بعد فك رموز حجر رشيد، أُتيح قراءة أكثر من ألف عام من التاريخ المصري، مما أضفى رونقًا شديدًا على مصر وآثارها. فمُنذ أواخر القرن السابع عشر، ازداد عدد زوار مصر من العلماء، وساهمت الآثار التي جمعوها وكتاباتهم بشكل كبير دراسة مصر القديمة والهيروغليفية، وبفضل الثورة الصناعية التي انطلقت في أوروبا والتطور في وسائل النقل، أصبحت مصر وجهة شهيرة للغربيين، حتى أن الأطباء أوصوا بمصر كموقع للاستشفاء لطقسها الدافئ والجاف. وبازدياد المعلومات التي تم تجميعها من ترجمة النصوص الهيروغليفية، ظهر نجم جديد في سماء العلوم وهو علم المصريات.
كانت الحملة الفرنسية على مصر تهدف أساسًا إلى المشاركة في احتلال الشرق، وفرض السيطرة الفرنسية على بعض أراضيه، بالإضافة إلى قطع الاتصال بين بريطانيا ومستعمراتها في الشرق، ولكن رُبَّ ضارة نافعة؛ فبدلًا من احتلال دولة، شاركت الحملة في إحياء حضارة من سُباتها العميق.
كتابة: آية ياسر
مراجعة: ياسمين محمد
تحرير: شدوى محمود
تصميم: امنيه عبد الفتاح