“أنا إلَه”
ربما لم يلتفت العالم لألبوم “Yeezus” الذي صدر عام 2013، لمطرب الراب الأمريكي “كيني ويست – Kenye West”، وقد جاءت إحدى أغانيه بعنوان صريح ” I am a God”. وقال “كيني” فيما بعد أن هذه الأغنية قد نتجت عن ظروف قاسية ومحبطة للغاية بالنسبة له؛ فقد فشل في مجال صناعة الأزياء، وتم استبعاده من قِبَل علامات تجارية وخطوط عالمية في مجال الموضة كان يود بشدة العمل معها، مما دفعه في ظروف كهذه للتفكير في تأليف هذه الأغنية. ولو اطلعنا على بعض كلماتها، يمكننا فهم سيكولوجية وفلسفة هذا الإنسان. الأغنية جاءت كالتالي:
I am a God.
أنا إلَه (رب).
Even though I’m a man of God,
وإن كنت إنسانًا (عبدًا) للرب،
My whole life in the hands of God.
فحياتي كلها بيد الرب.
So y’all better quit playing with God.
لذلك، من الأفضل لكم ألا تعبثوا مع الرب.
هنا يمكننا أن نوضح أنه يستخدم هذه الألفاظ فقط ردًا على نبذه وشعوره بالدونية والرفض؛ فعندما رُفِض من العلامات التجارية التي كان يود العمل معها، ربما لأنه زنجي ذو بشرة سوداء، كان يود فقط الرد على تلك العبارات الضمنية التي تقول: “أنت لا تستحق أن تكون هنا، أنت لا يمكن أن تنتمي إلينا”. فأراد أن يتعالى على بشريته وعلى الإنسانية كلها، وليس على نابذيه فقط، فصدح: “أنا إله.. أنا إله”، لأن في هذه العبارة ما هو غير متوقع وغير مألوف، وفيها ما يُشبِع حالة الغضب والثورة التي بداخله. لكن لو قال مثلًا: “أنا كيني ويست، أنا بشر”، فهذا فيه شيء من المحدودية والعادية، وربما يدعو البعض للتهكم. لكنه يريد الفكاك من هذه الحدود، ولو بالوهم والادعاء، ويريد التعالي بما هو فوق البشر، وما بعد الإنسان.
ما بعد الإنسان
في الفقرة السابقة، عبرنا عن محاولة “كيني” للتعالي على بشريته، وذكرنا عبارة “ما بعد الإنسان”. وهذا ما يجعلنا نقف على هذه الفكرة بشكل أوضح مع الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه”، وهو أيضًا ينظر لنفسه على أنه غريب غير منتمٍ، وقد بدأ يركض في طريق الانفصال عن كياناته؛ ففي البداية انفصل نيتشه عن وظيفته، ثم عن وطنه ألمانيا، ثم عن عصره، ثم عن الجنس البشري ككل!
يقول نيتشه: “الاشمئزاز من البشر هو الخطر الأكبر بالنسبة لي”، فهو لم يكن يرى في عبارة “أنا إنسان” أي قوة أو تميز. وقد قال أيضًا: “اللحظة الأروع للبشرية هي ذلك اليوم الذي ستكون فيه البشرية شيئًا آخر، شيئًا أفضل. إن المستقبل ينتمي إلى ذلك الكائن الجديد”. ويرى نيتشه أن الرابط بين البشر هو المرض أو العدم؛ أي أنهم جميعًا يسيرون للفناء. ويعتقد أن كون المرء إنسانًا يعني أن يكون عائقًا في مسيرة نمو الأنواع، محافظًا على السلطة، مدمرًا للحيوية، واضعًا حدودًا للقوة، ناقمًا حاسدًا للقوي ويحاول الانتقام منه. وعلى الرغم من وجود عصور مجيدة خلال عمر البشرية، إلا أن العدمية هي المصير المحتوم.
قارئنا العزيز، ما رأيك في تلك الأفكار؟ لو كان لنا أن نقوم باستفتاء حول استمرار البشرية، هل ستصوت بالبقاء أم ترغب بالمغادرة؟ وكيف يمكنك أن تصف الطبيعة البشرية من وجهة نظرك؟ هل تتفق مع هذه الأفكار النتشوية؟ وهل الإنسانية حقًا بكل هذه البشاعة وتستحق كل هذا المقت والاحتقار؟
من الواضح هنا أن نيتشه لم يكن يقصد أن اللحظة الأفضل على الإطلاق للبشر ستكون ذلك اليوم الذي يكونون فيه أكثر تقدمًا أو تحضرًا أو أخلاقية، لكنه يقصد أن يكون هناك جنس آخر جديد، ولا شك أنه سيكون مختلفًا ومميزًا تمامًا عنَّا. إذن فهو يرى أن البشرية بكل ما فيها، وبكل ما صنعته -خيرًا كان أم شرًا- ليست سوى مرحلة أو جسر ما، بين جنسين أو نوعين ما من الوحوش، وبين هذا الكائن الجديد “Super Man”.
وهنا، يجب التنويه على أنه من الخطأ الاعتقاد بأن فكرة الإنسان الخارق (أو شديد التميز) التي يقصدها نيتشه هي نفسها الفكرة التي نعرفها عن البطل المعروف في السينما؛ فنيتشه لم يقصد بالتميز هنا “البطولة”، فالإنسان الخارق الذي نعرفه لا يستطيع أن يتصرف بشكل غير إنساني، ويستخدم القوة للمساعدة. لكن نيتشه يرى أن هذا يعني ضمنيًا وجود رعاع وضعفاء عاجزين عن حماية أنفسهم، متَّكلين دومًا على الأقوى. أما ما يقصده بفكرة الإنسان الخارق -أو المميز- فهو هذا الكائن الخالي من التواضع، البكاء، الإحساس بالواجب، والشفقة تجاه الآخرين. تمامًا كما ذُكِر في كتاب “المسيخ الدجال – 1888″، حيث يقول الكاتب: “إن الشفقة تصنع معاناة مُعدية”.
وكما حذر نيتشه من الشفقة، كذلك حذر من الإعجاب؛ فإعجاب الآخرين بك يعني أنك مقيد دائمًا بإرشادهم وأنك أصبحت قدوة. أما الكائن المميز عند نيتشه فهو ليس بقدوة، ولا يرغب في ذلك؛ فهو يتصرف وفقًا لمصلحته وقانونه الخاص، يسعى لتحطيم الأصنام والقيود، حتى لو كانت قيود الأخلاق والواجب والفضيلة، أي أنه يسعى لتحطيم كل ما يحول بينه وبين الحرية المطلقة، وإشباع غرائزه وتحقيق منفعته.
وتتجلى هنا جوانب الضَعف في فلسفة نيتشه القائمة على المنفعة والذاتية المحضة؛ إذ أنه وفقًا لذلك، لا يمكن أن تستقيم أمة، أو تُبنى حضارة، أو ينهض مجتمع.
“أنا لست إلهًا”
نعود مرة أخرى لكلمات “كيني ويست”. فكما يبدو حتى وهو يدَّعي أنه إله، يميل لقول: “رغم كوني إنسانًا (أو: حتى وإن كنت عبدًا للرب)، فحياتي كلها بيد الرب. لذلك، من الأفضل لكم ألا تعبثوا مع الرب”. فحينما شرع في هذا الإدعاء، لم يلبث إلا أن أقر من جديد ببشريته!
وسريعًا، يمكننا أن نشير إلى أنه بغض النظر عما يعتقد أو يدين به “كيني ويست”، إلا أن كلماته أبت إلا أن تكون ذات طابع إيماني؛ فهنا نموذج واضح للشخص المملوء بالنرجسية والغرور والتعالي، لكنه -بشكلٍ ما- لا يستطيع الفكاك أو التملص من كونه بشرًا في نهاية المطاف.
ويبقى أن نشير إلى أن هذه الادعاءات والصرخات المتألهة ليست بجديدة على النفس البشرية ولا العقل البشري؛ فذاك فرعون قد أعلنها منذ آلاف السنين، وها هو ينغلق عليه البحر هو وجنوده، ويبقى جسده دليلًا ماديًا على جهالة الإنسان ومحدوديته.