الديچاڤو، توهم أم مرض؟
هل سبق لك أن دخلت يومًا إلى مكان ما لأول مرة وشعرت وكأنك كنت هنا من قبل؟
أو تحدثت مع صديقك بموضوع ما فتشعر وكأنكما قد مر عليك هذا الحديث سابقًا؟
قابلت شخصًا لا تعرفه لكنه يبدو مألوفًا؟ مررت بموقف ما وكأنه يعاد مجددًا؟
لا تقلق فلست وحدك.
«وهم سبق الرؤية» أو «Déjà vu» هو شعور لحظي بأنك قمت بالمرور بهذا الموقف بالفعل في وضع مطابق تمامًا في الماضي غير المحدد.
حوالي 60 إلى 70 بالمائة من الأشخاص الأصحاء يمرون بهذه الحالة الذهنية العابرة التي عادةً ما تكون بصرية -ولكن يمكن لبضعة كلمات أن تسبب هذا الشعور الغريب بالألفة-، وغالبًا ما تصيب الشباب مابين 15-25 عامًا، الأمر الذي أدى إلى اعتقاد العلماء بوجود علاقة بينها وبين الناقلات العصبية مثل الدوبامين، والتي توجد بمستويات مرتفعة عند المراهقين والشباب، وهي فرضية لاقت انتباهًا شديدًا بعد ظهور حالة غريبة لرجل يبلغ 39 عامًا.
الرجل -والذي كان طبيبًا- كان يكافح نزلة برد أصيب بها بواسطة نوعين من الأدوية «Amantadine and Phenylpropanolamine» وكلاهما يعمل على زيادة نشاط الدوبامين، في خلال 24 ساعة واجه الطبيب نوبات «وهم سبق رؤية» شديدة ومتكررة، توقفت بمجرد توقفه عن العلاج.
يمكن تقسيم ظاهرة الديچاڤو لنوعين:
الأول وهو: ديچاڤو ترابطية «Associative déjà vu»
وهي النوع الأكثر شيوعًا والتي يواجهها معظم الأشخاص الأصحاء وهي ترابطية بطبيعتها أي أنه حينما ترى، تسمع، أو تشم شيئًا ما يعطي ذلك إحساسًا بأنك مررت بهذا الشيء من قبل نتيجة لربط الدماغ بينها وبين ذاكرة قديمة مشابهة، يعتقد العديد من الباحثين أن هذا النوع هو تجربة تستند على الذاكرة، ويفترض أن مراكز الذاكرة بالعقل هي المسؤولة عنها.
وأما الثاني فهو: ديچاڤو بيولوجية «Biological déjà vu»:
هذا النوع يحدث بكثرة بين المصابين بالصرع، تحديدًا صرع الفص الصدغي «Temporal lobe epilepsy».
إذ أنهم يشعرون بإحساس قوي بمرورهم بنفس الموقف قبل حدوث النوبة، الأمر الذي أعطى للباحثين طريقة موثوقة أكثر لدراسة هذه الظاهرة من خلال تحديد المناطق بالدماغ التي تنشأ منها الإشارات المسببة للديچاڤو، ويختلف هذا النوع عن سابقه بأنه يعطي لصاحبه شعورًا قويًا وأكيدًا بمروره بنفس الموقف عدا عن إحساس عابر.
في السابق كان من الصعب للغاية دراسة الديچاڤو نظرًا لكونها ظاهرة لحظية تحدث دون سابق إنذار وبلا أي مظاهر جسدية أو شهود عدا إحساس الشخص بالألفة، لذا كان هناك القليل من الأبحاث والنظريات لتفسير لهذه الظاهرة منها تفسير العالم سيجموند فرويد «Sigmund Freud» الذي افترض أن الديچاڤو ما هي إلا رغبة دفينة أو ذكرى مكبوتة لحدث مقلق في حياة الشخص حتى أصبح العقل لا يتعامل بصورة طبيعية مع هذه الذكرى، واستخدم العلماء افتراضيته هذه المسماه «paramnesia» لتفسير الديچاڤو لمدة طويلة حتى منتصف القرن العشرين.
آلان براون «Alan Brown»، وهو أستاذ علم النفس بجامعة ساوث ميثوديست ومؤلف كتاب «تجربة ديجا فو، مقالات في علم النفس المعرفي»؛ كان يؤمن بأن لهذه الظاهرة ثلاثة أسباب؛ إما خلل بيولوجي مثل الصرع «epilepsy»، أو الإلمام الضمني أو الإدراك المنقسم.
بتطور العلم قام العلماء والباحثون بوضع النظريات القديمة جانبًا واستخدام تكنولوچيا تصوير الدماغ، وبالتالي ربط ظاهرة الديچاڤو بالذاكرة أملًا في معرفة المزيد عن الذاكرة وطرق تخزينها واسترجاعها.
منذ ذلك الحين قرر الباحثون أن الفص الدماغي الإنسي «medial temporal lobe» له دور في ذاكرة العقل الواعي، إذ أنه يحتوي على قرن آمون «hippocampus» وهو المسؤول عن استعادة الذكريات في العقل الواعي، ولفيف مجاور له «parahippocampal gyrus» وهو الذي يمكننا من تحديد ما الذي يبدو مألوفًا -بدون استرجاع حدث معين-.
قام الدكتور آلان براون بوضع نظرية تسمى الهاتف الخلوي أو الاهتمام المنقسم «phone theory or divided attention»، التي افترض بها أن العقل يسجل بشكل مبدأي المحيط حوله ولكن دون وعي منه نتيجة لتشتت انتباهه بشيء آخر، وعند استعادة الانتباه أو التركيز تبدو المناطق المحيطة بنا مألوفة بالفعل حتى لو لم تكن حقًا كذلك.
واستند في نظريته هذه إلى تجربة قام بها هو وزميلته إليزابيث مارش «Elizabeth Marsh» في الدراسات التي أجريت في جامعة ديوك وSMU، إذ قاموا بعرض صور لمواقع مختلفة لمجموعة من الطلاب ولكن بسرعات عالية -حوالي 10 إلى 20 مللي ثانية- وهي فترة كافية حتى يقوم الدماغ بتسجيل الصورة لكن دون أن يعي الطلاب بذلك، ثم قاموا بسؤال الطلاب عن هذه المواقع عشوائيًا أيهما مألوف، فكانت الصورة التي تم عرضها مألوفة بمعدلات أعلى بكثير من تلك التي لم تعرض.
يمكن أيضًا التنبؤ بعض الشيء بحدوث ظاهرة الديچاڤو مع الاضطرابات النفسية الكبرى كالقلق والاكتئاب واضطرابات انفصام الشخصية.
كتابة: غدى محمد
مراجعة: ابرار عبد المنعم
تحرير: اسراء وصفى
تصميم: احمد محمد