التاريخ والأدب

ملحمة جلجامش والفوز بالخلود!

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: “دقات قلب المرء قائلةً له… إن الحياة دقائقٌ وثوان،
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها.. فالذكر للإنسان عمر ثانِ”.

في هذا المقال، نأخذك -عزيزي القارئ- في رحلة إلى بلاد الرافدين وملوكها، خوفٌ من الموت، سعيٌ ورغبةٌ في حياة أبدية، رحلة البحث عن المعنى، معنى الحياة.. الحب والإنسان.

كل تلك التساؤلات التي تشغل أي إنسان؛ كذلك شغلت “جلجامش”.

رحلة لقصة ملحمية تم كتابتها قبل 1500 سنة من كتابة هوميروس للإلياذة، كُتبت بخط مسماري على 12 لوحًا طينيًا!

اُكتشفت الألواح في أنقاض مكتبة آشوربانيبال (Ashurbanipal) في نينوى -التي تقع على ضفة نهر دجلة الشرقية إلى الجنوب من مدينة الموصل في العراق- عام 1849 ميلاديًا من قِبل عالم الآثار أوستن هنري لايارد (Austin Henry Layard).
كانت حملته جزءًا من مبادرة أطلقتها الحكومات الأوربية في منتصف القرن التاسع عشر لتمويل الحملات الاستكشافية إلى بلاد ما بين النهرين؛ لكي يعثروا على أدلة مادية لإثبات الأحداث الموضحة في الكتاب المقدس، وذكرت بعض المصادر أنّ المكتشف الفعلي لألواح الملحمة هو عالم الآشوريات التركي هرمز رسام (Hormuzd Rassam)،
والآن لننتقل إلى القصة.

جلجامش، الملك الطاغية الذي استحق عقاب الآلهة:

حسب الأسطورة، كان جلجامش ملكًا شابًا وسيمًا ورياضيًا في مدينة أوروك -الوركاء حاليًا، تقع في العراق على نهر الفرات-، والدته هي الآلهة الأم المقدسة والملكة العظيمة نينسون، فلذلك، كان جلجامش نصف إله، وعاش حياة طويلة بلغت تقريبًا 126 عامًا، وامتلك قوى خارقة!

كان جلجامش مفعمًا بالحيوية والنشاط، كان يتحدى جميع الشباب الآخرين في المسابقات الجسدية والقتالية، لذلك؛ أصبح قاسيًا ومتغطرسًا، شعبه يضجر من سلوكياته البغيضة، كانوا يتضرعون إلى إله السماء العظيم “أنو” حتى يساعدهم.

استجابت الآلهة لشكوى الشعب، وأخذت تبحث عن حلٍّ للحد من أفعاله؛ فيُستقروا إلى إيجاد شخص قوي يقوم بتحدي جلجامش وهزيمته ومن ثم كسر غروره، وبالفعل أرسلت الآلهة إنكيدو (Enkidu)، ذلك الرجل البري الذي كان يعيش بين الحيوانات، ويعتبرهم أسرة له حتى إن جاء أي صياد للغابة؛ ليصطاد الحيوانات، كان يدافع عنهم ويهاجم على الصيادين، لذا؛ اختارته الآلهة لإذلال جلجامش وتلقينه درسًا.

أطاع إنكيدو أمر الآلهة، وذهب إلى أوروك، والتقى بجلجامش، وبدأت المعركة بينهما، وكانت شرسة للغاية، تُوّج فيها جلجامش بالنصر، وتقبل إنكيدو الهزيمة بعلوّ روحه الرياضية، وبعدها، أصبحا صديقين، وشرعا في العديد من المغامرات معًا، إحدى مغامراتهم أنهم قتلوا همبابا -وهو مخلوق له هيئة مخيفة عينته الآلهة حارسًا لغابات شجر الأرز-.

غضب الآلهة وافتراق الصديقين:

قتل همبابا جذب انتباه إنانا -عشتار-، وأُعجبت بجلجامش وطلبت منه الزواج؛ رفض، غضبت إنانا غضبًا شديدًا، لذلك طلبت من الإله “أنو” أن يقتص لها من جلجامش، وطلبت منه أن يخلق ثورًا سماويًا مقدسًا ينتقم لها؛ يخرج الثور لجلجامش، ولكن إنكيدو وجلجامش يقضيان على الثور!
غضبت الآلهة بشدة؛ كيف لهم أن يقتلوا ثورًا مقدسًا!
فلذلك قررت الآلهة عقابهما، وكان من الصعب قتل جلجامش لأن دم الآلهة يسري فيه؛ فصُبت اللعنة على إنكيدو، ومرض ثم مات.
حزن جلجامش على خليله بشدة، وقد كان ذلك الحدث نقطةً محوريةً وقلب سير الأحداث لتلفت نظر جلجامش لمعانٍ كثيرة؛ أهمها الخلود!

البحث عن الخلود:

تخلص جلجامش من غروره وكبريائه المعهودين، وجاب الأرض كلها سفرًا عبر الجبال وفوق المحيطات؛ بحثًا عن الخالد أوتنابيشتيم (Utnapishtim) الذي نجى من الفيضان البابلي العظيم، لكي يعرف منه طريقة للهروب من الموت.

وجده؛ ثم أعطاه أوتنابيشتيم فرصتين للحصول على حياة أبدية، أول فرصة هي أن يظل مستيقظًا لستة أيام بلياليها، ووافق جلجامش بالفعل، ولكنه فشل في ذلك للأسف، فأعطاه فرصة ثانية وهي أنه يحصل على نبتة في أعماق المحيط هي سر الخلود، حصل عليها، ولكن أتت أفعى والتهمتها!

فيدرك جلجامش أن الخلود الذي ينشده -ألا يموت أبدًا- مستحيلٌ، وأن الموت أمرٌ حتمي، ولكنه أدرك معنى آخر، معنى حقيقي، أن خلود الإنسان هو ذاك الأثر الذي يتركه وراءه، وأن أفعاله هي التي تعيش عمرًا مديدًا ويحيى اسمه معها، عاد إلى بلاده وقد تحوّل إلى شخص آخر عكس ما كان عليه، صار محبًا لشعبه، مدافعًا عنهم ضد أي غزو، فأصبح ذلك الملك الصالح المشهور والخالد.
قصة فشل جلجامش في تحقيق حلمه حيث الخلود، كانت هي الوسيلة ذاتها التي حقق بها ذلك، فالملحمة نفسها هي الخلود الذي كان يسعى إليه.

المغزى:

تسلط الملحمة الضوء على العديد من المعاني والمفاهيم، مثل: الصداقة الحقيقية، دور الملك تجاه شعبه، الخلود والموت، العلاقات بين الرجل والمرأة، الحضارة والبرية، وعلاقات البشر والآلهة، وتجدها تتردد في جميع أنحاء القصة. كما توجهت إلى معنى خاص، وهو أنها وحدها التحديات هي ما تسمو بروح الإنسان، وتصقل خبراته، وتهذب سلوكاته؛ فتحديات جلجامش العديدة خلال القصة ساعدت على إنضاج البطل وجعله ملكًا جيدًا لشعبه.

الجذور الواقعية للقصة:

في الأصل، جلجامش شخصية حقيقية، حكم الأوروك في القرن السادس والعشرين قبل الميلاد، كان حاكمًا قويًا وذاع صيته في زمانه إلى الحد الذي جعل المفكرين ينسجون حوله الأساطير عن كونه نصف إله، وبلغت الأساطير حوله أوجها في الحكايات الموجودة في (ملحمة جلجامش)، واستفاد ملوك بلاد ما بين النهرين لاحقًا من شهرة جلجامش وتلك الأساطير؛ فحمل ملوك بلاد ما بين النهرين اسمه، وربطوا نسبه بأنسابهم. منهم على سبيل المثال: الملك شولجي، الذي يعتبر أعظم ملوك عصر أور الثالثة (2047 – 1750 قبل الميلاد) في بلاد ما بين النهرين، وقد ادّعى أن لوغالباندا ونينسون هما والداه، وجلجامش شقيقه.

المصادر 1 2

كتابة: آية ياسر

مراجعة:  ياسمين محمد

تحرير: احمد عبيد

تصميم: امنيه عبدالفتاح

اظهر المزيد

الجرعة اليومية من العلوم

مؤسسة علمية تطوعية هدفها نشر وتبسيط العلوم، وإثراء المحتوى العربي العلمي عبر الإنترنت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى