وينستون أورويل: رؤية مختلفة لرواية 1984
“كان يومًا باردًا من أيام نيسان بسمائه الصافية”
اهتمَّ الجميع بمُناقَشة دولة الأخ الكبير لرائعة جورج أورويل 1984، لكن لم ينتبه أحد إلى مُناقَشة حياة مُواطِن الدولة وينستون نفسه، فلمَّ لا نُناقشها الآن؟
ربما لمْ يَكُن يدري بطلنا وينستون ما سيحدث له في مُستقبله القريب، ظلَّ سؤال يشغل باله ربما حتى أودى بحياته، شعور غريب يجثم على صدره، إحساسه بأنَّ هناك شيء في غير محله، هل الأعداء هم حقًا الأعداء؟!
هل ما نراه خيرًا هو الخير المُطلَق؟
هل ما أقوم به يُعَدّ شيئًا نبيلًا؟
صَوَّر الكاتب “جورج أورويل” بطله كأنَّه تجسيد لـ “المُواطِن العادي”، الذي لا يفعل شيئًا سوى أداء عمله، ولا يبرح عن تكرار الروتين اليومي، الشخص الذي تُراوِده أسئلة في الدين والسياسة والمواقف الحياتية، لكنه يُفضِّل أنْ يحتفظ بها لنفسه، إمَّا خوفًا من أنْ يتم اتهامه بشيء، أو أنَّه لا طاقة له بالحديث.
ولكن الأهم من ذلك هو تصوير الجو العام الذي يعيش فيه هذا المُواطِن، فهو يعيش في شقة عادية لديّه جيران فضوليون -مُزعِجون بعض الشيء- غير مُساعِدين له، لدرجة أنْ تَشُك أنْ يُساعدوك إذا ما احتجتَ النجدة!
يعمل في إحدى وزارات الدولة -ويعمل دون طرح أسئلة-، لا تُوجَد غاية أو معنى للحياة بالنسبة له، وكيف وهو لا يعرف حتى ماهية الشعور؟!
وحتى لو شعر لا يستطيع أنْ يُعبِّر، فاللغة يتم باستمرار تدقيق قواميسها للتَخلُص من الكلمات التي تحمل رائحة العَداء للنظام، وترامَت أحاسيس الحُبّ والعطف والحزن والشفقة بعيدًا جدًا عن عقله، فلا يكاد يفقهها.
العلاقات الاجتماعية؟ لا تُوجَد، إذا استبعدنا الأشخاص الذين يتناول معهم الطعام -دون رغبته- ويُحاولون ملء رأسه بكثير من الكلام، فلا يُوجَد ما يُسمَّى بـ “الأصدقاء”، حيث استبدلت الكلمة بـ “الرِفاق”، فالكل رفيق الآخر، ولا تُوجَد حاجة لأنْ أُخبرك أنَّه غير مُتزوِج، فشخص كهذا لا يفقه معنى الحُبّ، لماذا؟
ربما تستشعر شُعور بالنُفور ممزوج بالشفقة من هذه الشخصية، لكن في البداية دعني أُخبرك أنَّه لم يَكُن الوحيد، فكل المُواطنين وينستون، وربما في المُستقبَل القريب ستُصبِح أنتَ وينستون أيضًا.
دولة الأخ الكبير:
حين تسمع اسم رواية 1984، فإنَّ أول ما يدور ببالك أنَّ الكاتب صَوَّر الدولة الديكتاتورية ذات الشِعار الأشهَر: “الأخ الكبير يُراقِبك”، فكل ما تشربه أو تأكله أو تقرأه أو تُقابله أو حتى تتنفسه مُراقَب من النظام، ومُواطِني تلك البلاد يَعُون هذا ويفهمونه، ولهذا إذا أخبرهم أحدهم أنَّ الأخ الكبير غير موجود لثاروا عليه وطالبوا بإعدامه، دون أنْ يتأكدوا من المعلومة نفسها، لا يكذبون فقط على بعضهم البعض في اختلاق حُجَج لكل ما يفعله النظام، بل يُرغِمون أنفسهم على تصديق ما يرونه على شاشات الإعلام، فإنْ سألتَ أحدهم: ماذا عن قتل الأبرياء؟
إنهم خَوَنة؛ يُريدون الضَرر بالبلاد.
الفقر؟
إنها سُنَّة الحياة، يُوجَد الغَنى والفقير.
الحرب مُستمِرة منذ القِدَم ولمْ تَنتهِ؟
لأنَّ الأشرار لا ينتهون، وإذا قَضينا على أغلبهم تراهم يزيدون.
ضد مَن نُحارِب؟
ضد ما يُمثُل خَطرًا للأخ الكبير.
والهدف الحقيقي من الحرب هو: “إبقاء الشعب في حالة فزع”.
ومَن يفطن لتلك الحقيقة فجزاؤه ليس الموت، ولكن “إعادة التأهيل” مثل ما حدث لوينستون.
الإحساس بالإحساس:
كان يومًا عاديًا مثل باقي الأيام الرتيبة التي تمر به، ولكن تَغيَّر كل هذا عندما كلمته “جوليا”، كان قد رآها غير مرة تسير وراءه أو ترمقه بنظرات، فظَنَّ أنها تتجسس عليه، وأنَّ تفكيره في عدم رِضاه عن النظام الحالي قد أودَى به إلى التهلُكة، ولا تندهش أنَّ التفكير خطر؛ فهناك جريمة الفِكر، وتعكف الدولة -دولة وينستون- على إنشاء جهاز لمعرفة الأفكار المُعادِية للبلد؛ للقبض على حاملي تلك الأفكار بمُجرَد التفكير، دون انتظار أنْ يُقدِموا على أي فعل، باختصار: لَخَّصَ ذلك المُغنِّى الشاب تلك الحالة حينما قال: “بتخاف تفكر بحُرية لحد يشوفك.”
نعود لجوليا، لم تَكُن تتجسس على شخصه، لكنها كانت تتجسس على قلبه، فقد اعترفت له في أول لقاء بينهما أنها تهيم به حُبًا، وتمَّ اللقاء الأول في مكان بعيد بَذلا جُهدًا ليس بقليل لبُلوغه، بعيدًا عن أَعيُن الكاميرات وشاشات الرصد التي تُراقِب الجميع باستمرار.
ولكي نعلم مَدى تأثير جوليا على وينستون، نحتاج أنْ نَقِف عدة محطات في علاقتهما، سنتعرف عليها في المقال القادم.
المصدر: رواية 1984
كتابة: مصطفى طنطاوي
مراجعة: محمود وحيد
تحرير: أسماء مالك
تصميم: عاصم عبد المجيد