لماذا انهارت الحضارة الفرعونية إلى الأبد؟
تُعد الحضارة المصرية القديمة، أو ما يُعرف بالحضارة الفرعونية، أقدم وأعظم الحضارات على الإطلاق. يرجع تاريخ نشأتها إلى أكثر من خمسة آلاف عام، حيث كانت في البداية عبارة عن مجموعة من دويلات مستقلة، ومتمركزة على ضفاف نهر النيل تقوم على الزراعة، حتى جاء الملك مينا ووحد البلاد، لتنشأ بعد ذلك أعظم حضارة عرفتها البشرية.
تكمُن عظمة الحضارة الفرعونية في أنها كانت من أوائل الحضارات التي عرفت التقدم في جميع مجالات المعرفة البشرية، مثل: الفنون، والعلوم، والدين، والتكنولوجيا جعلتها صاحبة تأثير عظيم على الحضارات التي تبعتها، بما فيها الحضارة الإغريقية والرومانية.
على الرُغم من عظمة الحضارة الفرعونية وصمودها لآلاف السنين، إلا أن انهيارها المفاجئ، ووقوعها فريسة لغزو الدول الأجنبية، واندثار الثقافة المصرية القديمة، لا يزال محطّ بحث واستفهام علماء المصريات أو ال Egyptology. وقد طرح بعض العلماء والمؤرخين عدة احتمالات لأسباب انهيار الحكم الفرعوني، منها: الحروب الأهلية، والانقسامات السياسية، بالإضافة إلى تشبع المصريين بالثقافة اليونانية، إلا أن أسباب الضعف المفاجئ عقب وصول الحضارة الفرعونية أوج قوتها ونفوذها في عهد رمسيس الثاني لايزال يُشكل لغزًا محيرًا.
بداية الاضطراب
كانت مصر في قمة قوتها العسكرية والثقافية والفنية في عهد رمسيس الثاني (1279 – 1212 ق.م) خلال ما يُعرف باسم الأسرة التاسعة عشر، وكان أعداء رمسيس اللدودين هم الحيثيون (الأتراك الآن)، حيث دارت بينهم معركة قادش الشهيرة.
كان أحد الاختلافات بين الجيشين المصري والحيثي هو أن الجيش المصري كان يتسلح بأسلحة مصنوعة من معدن البرونز، بينما اكتشف الحيثيون معدنًا جديدًا أكثر فاعلية من البرونز، وهو الحديد الذي افتقرت إليه مصر، والذي عزز دفاعات الحيثيين أمام هجوم الجيش المصري.
بالرغم من أن المعركة انتهت بعقد اتفاقية سلام بين الطرفين، إلا أن هذا التخلف في التكنولوجيا العسكرية قد جعل من مصر عُرضةً للجيوش المتنافسة مما ساهم -بالتأكيد- في الانهيار العسكري لاحقًا.
بعد وفاة رمسيس الثاني، حاول أحد خلفائه، وهو رمسيس الثالث، أن يحذو حذوه، إلا أن مصر أصبحت محطّ أطماع للشعوب المجاورة، بسبب ضعف قوتها العسكرية، مما عرَّضها إلى محاولات غزو، أبرزها من قبائل تُعرف باسم “شعوب البحر” (قبائل أتت من منطقة جنوب بحر إيجة) كانت تشكل تهديدًا للأمن المصري، حتى هزمهم رمسيس الثالث أخيرًا في معركة الدلتا البحرية عام 1178 ق.م. بعد مقتل رمسيس الثالث، ظهرت تصدعات في وحدة الدولة المصرية، حيث قام الملك (أمنميسي) بالتمرد والانفصال بالجزء الجنوبي عن باقي البلاد. وبعد حرب أهلية طويلة، ومحاولات عدة لإعادة توحيد البلاد، ظلت مصر في حالة انقسام، مع وجود تواصل طفيف بين حكومتي الجزئين الشمالي والجنوبي.
انقسمت مصر إلى جزئين: الجزء الشمالي يحكمه فرعون، وعاصمته تانيس (الآن تُعرف بصان الحجر بمحافظة الشرقية) في شمال شرق البلاد، والجزء الجنوبي يحكمه كهنة آمون، وعاصمته طيبة.
العامل الاقتصادي
ساهمت العوامل الاقتصادية أيضًا في سقوط مصر القديمة، حيث دفع التفاوت الاقتصادي بين رجال الدين الذين استولوا على 30% من أراضي البلاد وبين المواطنين العاديين إلى ازدياد الخلافات حول توزيع الثروة. بالإضافة إلى ذلك، كان الإنفاق على الجيوش وتمويل الحروب العسكرية يستهلك الكثير من الأموال، مما أدى إلى إجهاد خزينة الدولة، وبالتالي إضعافها؛ فتسبب الضعف الاقتصادي في جعل مصر أقل قدرة على التعامل مع الضغوطات الأخرى، مما أدى في النهاية إلى سقوط مصر القديمة.
بالإضافة لما سبق، يوجد فترة امتدت لحوالي قرن من الزمان أثَّر الطقس البارد والجاف بشكل غير معتاد على مصر؛ حيث تسبب الطقس البارد في قلة محاصيل الطقس الدافئ وانخفاض هطول الأمطار، مما أدى إلى انخفاض مستويات المياه في نهر النيل، بعدها أتت فترة حوالي عقدين إلى 3 عقود، تميزت بفيضان غير منتظم للنيل، مما أدى إلى تدمير المحاصيل والبيوت وتشريد الآلاف، وانتشرت المجاعات ومات المصريين من الجفاف والجوع.
الحروب
تم توحيد البلاد لفترة قصيرة على يد شوشنق الأول حوالي عام 945 ق.م، مؤسسًا الأسرة الثانية والعشرين. وعلى الرُغم من أنه من أصل ليبي، إلا أنه قد أعاد الجنوب إلى السيطرة المركزية عن طريق تولية ابنه محل العائلة الكهنوتية الكبرى، كما أتبع سياسات خارجية عدوانية، بما في ذلك الحملات العسكرية في فلسطين، والتي قام بنهب القدس في إحداها.
وبعد قرن من الزمان، انقسمت البلاد مرة أخرى من خلال حكام الأسرة الثالثة والعشرين المتمركزة في الجنوب، والتي كانت تعمل بالتوازي مع حاكم الشمال. وجد ملوك طيبة أنفسهم متورطين في حرب أهلية طويلة الأمد، بينما نشأ عدد من الولايات شبه المستقلة في الشمال، مما أدى إلى تقويض البلاد ككل، وتزامن ذلك مع صعود قوة في جنوب مصر: النوبة.
اعتبر حكام النوبة أنفسهم ورثة للثقافة المصرية، وأسسوا الأسرة الخامسة والعشرين، وبذلك سيطروا على طيبة أولًا، ثم استولوا على مصر بأكملها، وأصبحوا فراعنة لمملكة متحدة من مصر والنوبة حوالي عام 720 ق.م.
الغزو الأجنبي
قام الآشوريون (قبائل عاشت في العراق قديمًا) بغزو مصر عام 671 ق.م، بقيادة أسرحدون، واستولوا عليها عام 666 ق.م، بقيادة آشور بانيبال. لم يضع الآشوريون خطة طويلة الأمد للسيطرة على مصر، فتركوها في حالة خراب للحكام المحليين. بعد ذلك، هجم الفرس على مصر بقيادة قمبيز الثاني عام 525 ق.م، ولم يستطع المصريون الوقوف أمام الغزو الفارسي، فسقطت مصر في يد الاحتلال الفارسي لمدة قرن من الزمان، حتى مجيء الإسكندر الأكبر الذي قضى على الإمبراطورية الفارسية، وجعل مصر ولاية تابعة لإمبراطوريته.
بعد وفاة الإسكندر الأكبر بلا وريث شرعي، انقسمت إمبراطورتيه بين قواده، وكانت مصر من نصيب القائد بطليموس الأول الذي أسس الإمبراطورية البطلمية، والتي حكمت مصر حتى انتحار آخر ملوكها، ألا وهي الملكة كليوباترا السابعة بعد هزيمتها في معركة أكتيوم البحرية عام 30ق.م ضد أوكتافيوس، وبعد ذلك، انضمت مصر للإمبراطورية الرومانية، وأصبحت “سلة حبوب” تغذي الإمبراطورية بأسرها. وبعدها، انضمت للدولة البيزنطية التي أسسها الملك قسطنطين الأول، وحتى عام 646 وهو عام الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص.
ظلت الحضارة المصرية القديمة محتفظة بثقافتها وتأثيرها لآلاف السنوات، وكانت ذات قوة ونفوذ امتد خارج حدودها. وكأي حضارة، كانت الحضارة المصرية تتأرجح بين القوة والضعف، تضعُف تارةً وتقوى تارة، حتى وصلت إلى أوج قوتها في عهد رمسيس الثاني الذي بموته تضائل حجم قوة البلاد، وتتابعت بعده الانقسامات والحروب الأهلية التي جعلت مصر فريسة سهلة للاحتلال الأجنبي. ومنذ ذلك الحين، لم ترى الحضارة المصرية النور مرة أخرى، حيث ساهمت الاحتلالات المتتابعة في طمس الهوية المصرية الأصيلة، وتلاشت الثقافة المصرية تدريجيًا تحت تأثير ثقافات الشعوب التي احتلتها؛ لتصبح مصر القديمة من التاريخ.
كتابة: علياء ياسر
مراجعة: ياسمين محمد
تحرير: سعاد حسن