برنامج T4 للقتل الرحيم
تحدثنا سابقًا عن حلم هتلر في سيطرة العرق الآري المزعوم -متمثلًا في ألمانيا والحزب النازي- على أوروبا والعالم كونه من أنقى الأعراق الأوروبية، ووصل به الأمر إلى ممارسات ساهمت في إشعال حرب عالمية راح ضحيتها 50 مليون إنسان.
نزيدك من الشعر بيتًا في هذا المقال عزيزي القارئ أن نيران عنصرية هتلر ونبذه لما هو مختلف عنه طالت أبناء جلدته والذين رأى أنهم لا يستحقون الحياة كونهم “معيوبين”، فحمل على عاتقه مهمة “تنقية” العرق الآري من تلك “الآفات” وبدء واحدة من أشرس الممارسات إبان الحرب العالمية الثانية: Aktion T4.
تعقيم “المعيوبين” من أجل الحفاظ على نقاء العرق
لم تكن ألمانيا حديثة العهد بمشروعات كهذه، فقد بدأت فكرة “تنقية العرق الآري” تأخذ خطوات واقعية عام 1933 بإصدار قانون (الوقاية من نسل المصابين بأمراض وراثية)، وبموجبه تم فرض التعقيم بالقوة على أي شخصٍ يعاني من أمراض أو حالات تُعتبر وراثية في ذلك الوقت؛ كالفصام والصرع ومرض أو متلازمة هانتينغدون (مرض يسبب تدمر خلايا المخ مما يتسبب في اضطرابات نفسية واضطرابات في الحركة والتفكير الإدراكي) وإدمان الكحوليات.
أول عملية “قتل رحيم”
تلقى أدولف هتلر رسالة من المواطن ريتشارد كريتشمار “Richard Kretschmar” مفادها أن ابنه الرضيع غيرهارد كريتشمار البالغ من العمر آنذاك خمسة أشهر يعاني من إعاقات شديدة لدرجة أنه يشبه الـ”وحش”، وكان ريتشارد قد اتصل بطبيبه المحلي وطلب قتل الطفل لمصلحته ولوقف معاناته التي ستجلبها له تلك الإعاقات، ولكن الطبيب رفض ذلك وهو ما اضطره إلى مراسلة هتلر لإبطال هذا الحكم.
واستجابة لاستغاثة الأب، أرسل هتلر الذي كان شغوفًا بفكرة “القتل الرحيم” للمعاقين بشدة طبيبه الشخصي كارل براندت “Karl Brandet” لفحص الطفل، ومعه إذن هتلر لقتل الطفل في حالة صحة ادعاء والد الطفل كما ذُكر في الرسالة. قام براندت بفحص الطفل جيدًا وخلص إلى أن حالة الطفل كانت ميؤوسًا منها، واستنادًا لإذن هتلر قٌتل الطفل في الأغلب عن طريق الحقنة القاتلة في 25 يوليو 1939.
بعد 3 أسابيع من مقتل الطفل أسس النازيون ما يُسمى بـ”لجنة الرايخ للتسجيل العلمي للأمراض الوراثية والخلقية”، وجمعت اللجنة سجلات وأعداد جميع الأطفال المولودين بعيوب خلقية حددها الأطباء، وبدأ القتل بأعداد ضخمة لهؤلاء الأطفال بعدها بقليل بتدشين برنامج T4.
بداية اللعنة
برنامج T4 والذي أُطلق عليه برنامج “T4 للقتل الرحيم” لجعله يظهر بمظهر طيب وحسن النية أكثر للعامة، هو برنامج تبنته الحكومة الألمانية النازية لقتل المرضى الميؤوس من شفائهم والمصابين بإعاقات جسدية أو عقلية وكبار السن وغيرهم مما يمثلون “عبئًا” على المجتمع الألماني، بدأ البرنامج في أكتوبر 1939 وتوقف رسميًا في عام 1941، ولكن استمرت عمليات القتل سرًا حتى هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية في عام 1945. سُمي البرنامج تيمنًا بعنوان المقر الرئيسي لإدارة البرنامج “tiergartenstrasse 4”
موقف الأطباء منه
فيما عارض القليل منهم شارك في هذا البرنامج وأيده مجتمع الطب النفسي كله بالإضافة لعلماء تحسين النسل.
أمر مسؤولو البرنامج بإجراء مسح لجميع مؤسسات الطب النفسي والمستشفيات ومنازل المرضى المصابين بأمراض مزمنة، وأُرسلت نتائج ذلك المسح إلى مقر البرنامج حيث يتسنى للأطباء تحليل تلك السجلات، وصار بيد هؤلاء الأطباء قرار الحكم بالموت بناءً على قراءة مجموعة من الأوراق دون فحص المرضى سريريًا.
بث الفتنة وتعميق العنصرية في النفوس لتقبل الشعب لعمليات القتل
الاتجاه الحقيقي للبرنامج لم يكن القضاء على “المعيوبين جينيًا” فقط ولكن كان على إنتاجيتهم الاقتصادية أيضًا، وأشار إليهم النازيون أنهم “أكلة عديمة الفائدة” وقد عززت الاعتبارات الاقتصادية التبريرات العلمية الزائفة لقتل “غير المستحقين” وخلق عداوة بينهم وبين باقي الشعب؛ حيث قالوا إنه يمكن للدولة أن تخصص الأموال التي تذهب لرعاية هؤلاء المجرمين وعديمي الفائدة لاستخدامها بشكل أفضل في قروض للمتزوجين حديثًا على سبيل المثال، ومن ثم زرع فكرة أنهم يمثلون عبئًا على المجتمع الألماني وأن هناك مقاصد أخرى لإنفاق الأموال أهم من علاجهم، ومن ثم إكساب البرنامج غطاءً جماهيريًا وشرعيًا وجعل الشعب يتقبل فكرة قتلهم.
خطة العمل
تم تكليف موظفو القوات شبه العسكرية النازية (SS) بنقل المرضى إلى مستعمرات القتل، وقاموا بارتداء المعاطف البيضاء لمواصلة خداع الشعب أنه إجراء طبي، وقام مسؤولو البرنامج بخداع الآباء وأقنعوهم أن أطفالهم سيؤخذون إلى “مراكز طبية خاصة” لعلاج حالاتهم، ولكن في الحقيقة كان الأطفال وباقي المرضى يُنقلون إلى مراكز الإبادة، وبعد القتل تُرسل أدمغتهم إلى مراكز لإجراء الدارسات عليها.
تراوحت طرق القتل بين الموت جوعًا والحقن المميتة (إحدى طرق الإعدام وفيها يُحقن المحكوم عليه ب 3 مواد كيميائية: مخدر عام وباسط للعضلات لتثبيط عضلات التنفس مما يؤدي للاختناق ومادة مسببة لسكتة قلبية، ويتحقق الموت في خلال دقيقتين بعد الجرعة الأخيرة) وصولًا إلى أسلوبهم المفضل ألا وهو الاختناق بالغاز السام الذي ظهر عام 1939، واستخدمت تلك الوسيلة لاحقًا في القتل الجماعي لليهود والبولنديين والغجر والمثليين جنسيًا وغيرهم من الجماعات المستهدفة في معسكرات الإبادة، وبعد القتل يتم حرق الجثث للتخلص منها وإخفاء أي أثر لجرائمهم.
أخيرًا، تُبعث لأقارب المتوفى رسائل تعزية وشهادات وفاة مزورة موقعة من الأطباء تحوي أسباب وفاة كاذبة وجِرار تحتوي على رماد الجثث.
تصاعد الاحتجاجات ومحاولة النظام احتواء غضب الجماهير
أثار عدد الأفراد المنقولين ونسب الوفيات المرتفعة العديد من علامات الاستفهام على طبيعة عمل هذا البرنامج، وبدأت أصوات الاعتراض والتنديد في الظهور والارتفاع، واندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء ألمانيا، اعترضت كل من الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية على البرنامج مما اضطر الحكومة آنذاك لإعلان إيقاف البرنامج إلى أجل غير مسمى عام 1941، ولكن ظل البرنامج قيد التنفيذ سرًا حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان آخر طفل قُتل هو ريتشارد جين في بلدة كوفبيرن في بافاريا.
بحسب المصادر، بلغ عدد ضحايا البرنامج تقريبًا 200 ألف بريء وتشير مصادر أخرى أن العدد ما بين 275 إلى 300 ألف.
كتابة: ياسمين محمد
تحرير: ميرنا عزوز