حضارة إيبلا
لم تكن الحضارة الفرعونية والبابلية وحدها التي اندثر أجزاء منها؛ بل كان هناك حضارة إيبلا! إذا كنت لم تسمع من قبل عن حضارة إيبلا المفقودة؛ هيا لنتعرف عليها سويًا:
المدينة المفقودة
إيبلا هي مدينة قديمة تقع حاليًا في “تل مرديخ” على بعد 33 ميل -حوالي 55 كم- جنوب غرب مدينة حلب في شمال غرب دولة سوريا، وصلت إيبلا إلى ذروة قوتها ونفوذها الاقتصادي والسياسي في مابين العامين (2240 – 2600 قبل الميلاد)؛ حيث سيطرت إيبلا على شمال سوريا ولبنان وأجزاء من شمال بلاد ما بين النهرين -أي العراق الحديث- وتمتعت بعلاقات تجارية ودبلوماسية مع دول بعيدة، مثل: مصر وإيران وسومر.
بدأ التنقيب عن التلة المعروفة الآن باسم تل مرديخ في عام 1964م مع فريق من علماء الآثار من جامعة روما بقيادة باولو ماتياي Paolo Matthia. في عام 1975، تم اكتشاف أكثر من 17000 لوحًا مكتوبًا بالخط المسماري المصنوعة من الصلصال، والتي كانت من حوالي 1500 لوح سليم بلا أي تشوّهات، بل محفوظة على نفس الترتيب الذي تم تخزينها به! وتمثل الألواح “أرشيفًا” غنيًا للمعلومات حول إيبلا.
اقتصاد إيبلا
نبع جزء من رخاء إيبلا من أراضيها الزراعية الداخلية؛ حيث السهل الغني في شمال سوريا، فيه نما الشعير والقمح والزيتون والتين والعنب والرمان والكتان، وتمت تربية الماشية والأغنام والماعز والخنازير
سيطرت إيبلا على 17 مدينة؛ ومن المرجح أن تلك الأراضي تشمل الآن لبنان وجنوب شرق تركيا -وهي مناطق غنية بالفضة والأخشاب- كانت المدينة هي مركز التصنيع والتوزيع؛ الكتان والصوف بما في ذلك القماش الدمشقي من المنتجات الرئيسية، وكان تصنيع القماش تحت مسؤولية الملكة نفسها، بالإضافة لتشغيل المعادن وصهر سبائك الذهب والفضة والنحاس والقصدير والرصاص.
كانت التجارة هي الداعم الثالث لاقتصاد إيبلا، وكان القماش والسلع المصنعة وزيت الزيتون من أهم صادراتها، وشملت الواردات الذهب والفضة والنحاس والقصدير والأحجار الكريمة والأغنام، بالإضافة إلى تجارة الترانزيت أو العبور؛ فقد كانت المسارات التجارية من إيران والأناضول وقبرص وسومر تمر بإيبلا في طريقها، وكانت التجارة المصرية تمر عبر جبيل (مدينة في لبنان حاليًا).
العلاقات الاجتماعية والدولية
دعمت الدبلوماسية والمعاهدات التجارية والحرب المحدودة أنشطة إيبلا التجارية، كانت مدينة إيمار ذات موقع استراتيجي عند التقاء نهري الفرات والباليخ، كانت مرتبطة بإيبلا عن طريق زواج الأسر الحاكمة من بعضها البعض، كان خمازي الحليف التجاري والدبلوماسي لإيبلا في إيران، وكانت ماري على نهر الفرات إلى الجنوب الشرقي، تعتبر المنافس التجاري الكبير لإيبلا، فقد شنت إيبلا الحرب مرتين ضدها ونجحت في احتلالها وحكمتها لفترة ما من خلال حاكم عسكري.
شارك مجلس الشيوخ في صنع القرار، كما كان يتم تعيين أربعة عشر حاكمًا لولايات إيبلا، اثنان منهم في العاصمة، وصل عدد السكان بحسب ما تم تدوينه في الألواح حوالي 260000 نسمة.
الديانة في إيبلا
كانت الديانة في إيبلا متعددة الآلهة وبالأساس من الكنعانيين؛ فكان دابر الإله الراعي للمدينة، ولكن عُبدت آلهة أخرى مثل عشتار.
كانت لغة إيبلا لهجة كنعانية غير معروفة حتى الآن، أقرب ما تكون إلى اللغات الشمالية الغربية السامية، ومع ذلك؛ فإن نصوص الألواح هي الكتابة المسمارية السومرية، والتي تكشف أن كان هناك تبادل ثقافي بين أيبلا وسومر، وتُظهر المفردات والمناهج والمعاجم وتمارين الطلاب التي تم استردادها أن إيبلا كانت مركزًا تعليميًا رئيسيًا، إن اكتمال نصوص إيبلا في وقت ما تكرر النصوص المجزأة من سومر يعزز بشكل كبير الدراسة الحديثة للسومرية.
نهاية الحضارة الإبلية
لفت ازدهار إيبلا انتباه السلالة الأكادية (حوالي 2334 – 2154 قبل الميلاد).
بدأ الغزو من الملك الأكادي سرجون؛ وكانت النهاية على يد حفيده نارام سين (حوالي 2240 قبل الميلاد)، تبع ذلك فترة من الفقر استمرت 250 عامًا، إلى أن سيطر مجموعة من العموريين على إيبلا وأسسوا سلالتهم الخاصة.
أعاد العموريون بناء القصر والمعبد؛ فوجدوا تمثالًا لأحد ملوكهم وسط الأنقاض، عاد ازدهار محدود فقط إلى المدينة، ويشير صولجان عظام مزخرف للملك المصري Ḥtp-ib-Re (حكم عام 1750 قبل الميلاد) إلى تجدُّد العلاقات مع مصر.
حدث الدمار النهائي لإيبلا في الاضطرابات العظيمة التي اجتاحت الشرق الأوسط حوالي 1650 – 1600 قبل الميلاد، لكن العديد من الحرف والتقاليد التي نشأت في المدينة عاشت في الثقافة السورية، وما زال هنالك الكثير من الأسرار التي نكتشفها عن الحضارة الإيبلية، فهل سيكون هناك مفاجآت أخرى في المستقبل؟ نعتقد ذلك ونتوق له.
كتابة: عبد الرازق سليم
مراجعة: ياسمين محمد
تحرير: أحمد عبيد