سلسلة مقالات متصلة من كتاب – الفلسفة الإسلامية في المشرق – د/ فيصل بدير عون
ما قبل نشأة الفلسفة الإسلامية
العقائد والثقافات التي اطلع عليها العرب، ووقفوا عليها، ولعبت دورًا هامًا في نشأة الفلسفة الإسلامية:
أولًا: اليهودية
وهي كلمة مشتقة من”هاد”، ومعناها في اللغة: رجع وأناب، قال موسى لربه: {إنّا هُدنا إليك}، والتوراة تعد أول كتاب سماوي منزل، حيث أن كل ما قبلها كان صحائف فحسب، وفي العقيدة اليهودية نجد فكرة التجسيم صارخة لديهم، واليهود كانوا قد اختلفوا فيما بينهم، وكان من أبرز هذه الجماعات اليهودية والعيساوية المقاربة اليوذعانية والموشكانية والسامرة.
ثانيًا: النصرانية
انتشرت قبل الإسلام انتشارًا واسعًا في مصر والحبشة والموصل والعراق وفارس وبلاد المغرب وصقلية والأندلس والشام، والنصارى وهم أمة عيسى ومريديه، ولقد اختلفوا فيما بينهم حول أمرين رئيسيين:
الأول: كيفية نزول المسيح واتصاله بأمه وتجسد الكلمة.
الثاني: هو توحد الكلمة.
فمنهم من قال أنه أشرق على الجسد، ومنهم من قال أن طُبع فيه، ومنهم من قال ظهر به ظهور الروحاني في الجسماني.
أما في الصعود، فقالوا قتل وصلب وهذا القتل، أو ورد على الجزء الناسوتي وليس اللاهوتي.
ونحن نعلم أن أربعة من الحواريين قد اجتمعوا، وجمع كل واحد منهم جمعًا للإنجيل: متى ولوقا ومرقس ويوحنا.
وكما افترقت اليهودية، نجد نفس الأمر بالنسبه للنصارى، فنجد الفرق الملكانية والنسطورية التي خرجت منها الإليانية والبليارسية والمقدانوسية.
ثالثًا: المجوسية
ينبغي أولًا قبل التحدث عن بعض الديانات الفارسية التي عرفها العرب والمسلمون، أن نشير إلى أن الفرس يميلون بصفة عامة إلى عبادة المظاهر الطبيعية والكواكب والماء والسماء والنار وغيرها، وكان لابد أن ينعكس تقديس الطبيعة هذا على إسلامهم فيما بعد، بحيث نجد أنهم بعد أن آمنوا بالإسلام -بوعي حينًا وبغير وعي حينًا آخر- صبغوه بعقيدتهم.
وذهب المجوس إلى القول بوجود أصلين للعالم يديرانه ويرعايانه ويحافظان عليه، وهما يقتسمان الخير والشر وما يتعلق بذلك في الكون من فساد وصلاح، وحركة وثبات، ووجود وعدم، ونفع وضر، وتنسب جماعة المجوس الثنوية كل فعل خير نافع إلى النور، ونسبت كل شر إلى الظلمة، وعندهم مركب من هذين الأصلين، وتتفاوت درجة الخيرية في الموجودات طبقًا لنصيبها من النور والظلمة، وكان من رأى جماعة المجوس في نشأتها أن أصل الوجود هو الخير أو النور، والنور أزلي بينما الظلام حادث، ولهذا فإن الشر عند المجوس أمر عارض، وما تختلف فيه جماعة الثنوية عن المجوس هو أن الثنوية تقول بأزلية الخير في العالم وبأزلية النور وبحدوث الظلام.
رابعًا: المانوية
وهي جماعة الثنوية، لكن مسمى المانوية نسبة إلى “ماني بن فاتك” الفيلسوف الذي ظهر في زمان شابور ابن ازدشير، وقد ظهر ماني بعد المسيح عليه السلام، حيث أخذ من النصرانية بطرف ومن المجوسية بطرف آخر، فهو يعترف بنبوة عيسى ولا يعترف بموسى، ويرى أن العالم مركب من أصلين: أحدهما هو النور والآخر هو الظلمة.
خامسًا: المزدكية
نسبة إلى مزدك الذي ظهر في أيام “قباد والد انوشراون”، وتتفق المزدكية مع المانوية، غير أن مزدك يرى أن النور يفعل بالإرادة والاختيار، بينما الظلمات تفعل بالمصادفة والعشوائية.
سادسًا: الزرادشتية
زعمت أن الله عز وجل قد خلق “زرادشت” من مادة قديمة في الصحف الأولى، وخلق من روح، فلما مضت ثلاثة آلاف سنة نفذت مشيئته في صورة من نور متلالئ على تركيب صورة الإنسان، الشمس، والقمر، والكواكب، والأرض، وبشر غير متحركين، وجعل روح “زرادشت” في شجرة في أعلى عليين جبال أذربيجان، ثم مزجها بلبن فشربه أبو زرادشت، فصار اللبن نطفة ثم مضغة في رحم أمه، ثم بعثه الله نبيًا ورسولًا للخلق، وكان دينه عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتجنب الخبائث، ويرى أيضًا أن النور والظلمة أصلان متضادان، وحصلت التراكيب من امتزاجهما معًا، والباري تعالى خالق النور والظلام، وهو واحد لا ضد له ولا شريك.
سابعًا: الصابئة
بدأ الشهرستاني حديثه عن الصابئة، فبدأ ذلك بوضع أساس لتقسيم الناس من جهة اعتقاداتهم فيقول:
من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول، وهم السفسطائيون.
ومنهم يقول بالمحسوس ولا يقول بالمعقول، وهم الطبيعيون.
ومنهم من يقول ولا يقول بحدود وأحكام بالمحسوس والمعقول، وهم الفلاسفة الدهرية.
ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام ولا يقول بالشريعة والإسلام، وهم الصابئة.
ومنهم من يقول بهذه كلها وبشريعة ماء وإسلام ولا يقول بشريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى.
ومنهم من يقول بهذه كلها، وهم المسلمون.
ومعنى هذا أن الصابئة قوم مقرون بوجود الله، لكنهم صبوا أي مالوا إلى الوسطاء الذين اعتقدوا أن في استطاعتهم أن يقربوهم إلى الله، فالصابئة على هذا كلمة مشتقة من كلمة “صبا” التي تعني الميل والهوى والعشق، والصبا هو الانحلال أيضًا.
وما يميز الصابئة عن الحنفية أنهم كانوا يقولون بأنهم يتحاجون في معرفتهم بالله وطاعته وأوامره واحكامه إلى وسيط، وهذا الوسيط يجب أن يكون روحانيًا لا جسمانيًا، وهذا لذكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب، فكانوا يقولون أننا نحتاج في معرفة الله وطاعته إلى متوسط أو وسيط من جنس البشر تكون درجاته في الطهارة والعصمة والحكمة فوق الروحانيات، حيث يجب أن يكون ممثلًا للبشر فيتلقى الوحي بالجانب الروحي من جهة بشريته.
قال تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ} و{قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا}، ولكن انحرفت الصابئة عن الاتجاهين السابقين، وبدأت تعبد الكواكب والنجوم والأصنام، حيث اتخذوا من هذه وسيلة توصلهم إلى الله، لكن الوسيلة لديهم طغت في النهاية على الهدف.
وقد عرف عرب الجاهلية هذا التيار معرفة قوية، وقد حفظت لنا كتب المؤرخين أسماء نفر من الحنفاء الذين تخلوا عن عبادة الأصنام، فمن هؤلاء نجد قص ابن سعد الأبادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت، ووكيع بن زهير الأبادي، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، والمتلمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي مسلم، وخالد بن سنان، وغيرهم.
ثامنًا: أصحاب الروحانيات
وهم جماعة يقرون بوحدانية الله وتدبيره للكون، وأنه خالق هذا العالم، وأنه سبحانه منزه عن كل الموجودات، لكن المرء يعجز عن معرفة هذا الإله والوصول إليه، لذلك يجب أن يتخذ من الأرواح وسيطًا بينه وبين الله، يتقرب به ويتودد إليه بهم، فقد اعتقدوا في هذه الأرواح وآمنوا بها واتخذوها أربابًا وآلهة، وعلى الإنسان من وجهة نظرهم هذه أن يسمو بأخلاقه بالبعد عن الشهوانية والغضب وباتصاله بهذه الروحانية.
تاسعًا: الفلسفة اليونانية
ينبغي أن نشير إلى خطأ فكرة شائعة، وهي أن ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية كانت بعد الإسلام، هذا حكم أضحى مشكوكًا فيه، لأن الترجمة قد ظهرت إلى حد لم يكن له من قبل مسير في العصر الإسلامي على يد المأمون، لكن من الحق أيضًا أن هذه الترجمات كانت قائمة قبل الإسلام، ومن المؤكد أن مدرسة الإسكندرية كانت لا تزال قائمة وقت أن فتح العرب مصر، فكانت تبعًا لهذه المدرسة المدرسة اليونانية البحت الوحيدة في البلاد التي غزاها العرب في دفعتهم الأولى.
هكذا عرضنا باختصار صنوف الفكر والعقائد التي عرفها العرب قبل الإسلام، وفي المقال القادم بإذن الله سنعرض كيف انتقل التراث اليوناني إلى العالم الإسلامي، وهل كان العرب منقسمين عقائديًا قبل الإسلام أم ماذا؟
كتابة: آيات أحمد
مراجعة: سارة صلاح
تحرير: أسماء مالك