الجنس الآري، حقيقة؟ أم مجرد ساتر شرعي لبعض الممارسات العنصرية؟
في كتابه “كفاحي”، يقول الزعيم النازي (أدولف هتلر): “إنه من الواضح بشكل مثير، من أدلة التاريخ، أنه حين يختلط دم الآري بدماء غيره من الشعوب المنحطة، فإن النتيجة كانت -بلا نزاع- دمارًا على الأجناس المتحضرة”!
إن كنت قد سمعت عن كلمة “الآرية” قبل قراءة المقال، نعتقد أنه سيتبادر فورًا إلى ذهنك شعارات هتلر النرجسية المتطرفة، ودعواته لسيادة ما يُطلق عليه “الجنس الآري”. فما هي حقيقة الأمر؟
في السطور القادمة، سنوضح حقيقة الشعوب الآرية، وزيف تلك الادعاءات العنصرية. ولكن، من وجهة نظر تاريخية بحتة، دون الخوض في علوم اللغات أو الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، فلنكمل حديثنا…
تمهيد: نشأة حضارة وادي السند
على ضفاف نهر السند الخصبة بالهند، تقريبًا عام 5500 قبل الميلاد، نمت حضارة مزدهرة -عُرِفَت بحضارة وادي السند- امتدت بين شمال غرب الهند وما يُعرف الآن ب(باكستان). بدأت تلك الحضارة بمستوطنات زراعية صغيرة على ضفاف النهر، وسرعان ما تطورت إلى نُظُم مدنية. وبين 2500 – 2000 قبل الميلاد، كانت حضارة وادي السند في أوج مجدها، حتى أنها تفوقت على حضارة بابل والحضارة الفرعونية آنذاك!
بدأ الاضمحلال عام 1800 قبل الميلاد، ولا يوجد دليل تاريخي واضح للوقوف على أسباب هذا الانهيار، والتفسيرات بشأنه متضاربة؛ فالبعض يقول أن ذلك بسبب جفاف النهر، والبعض الآخر يرجح حدوث فيضانات كارثية بالمنطقة. وأيًا كان السبب الحقيقي فالنتيجة واحدة، ألا وهي انهيار الزراعة التي كانت أساس قيام الحضارة، الأمر الذي بدوره أضعف الاقتصاد، فبدأت الكتابة تختفي، وانقطع الاتصال بالشرق الأدنى، وبدأ سكان المدن بهجرها تدريجيًا.
وفود المستوطنين الجدد
في عام 1500 قبل الميلاد، هاجرت جماعات من رعاة الماشية الرحل من آسيا الوسطى وإيران إلى وادي نهر السند، واستقروا فيه. أطلق السكان الأصليون على تلك الجماعات الوافدة اسم “الآريا – ārya”، والتي كانت تعني (النبيلة أو المميزة)، واشتُقَ من هذا الاسم كلًا من المصطلح الإنجليزي “Aryan”، والمصطلح الفارسي “ērān” الذي هو أصل تسمية دولة إيران الحالية.
ومع تتابع توافد الآريين إلى شبه القارة الهندية، تفوقت اللغة الآرية على اللغات المحلية فانتشرت، وزاد عدد المتحدثين بها، كما اتخذوا نمط الحياة الزراعي قبل حوالي 1000 عام قبل الميلاد.
تقول بعض الروايات أن الآريين كانوا غزاة متوحشين لا يمكن قهرهم أو إيقافهم، وتتهمهم بغزو شبه القارة الهندية، والفتك بحضارة وادي السند. لكن لا يوجد دليل لدعم تلك النظرية، بل علاوة على ذلك -بحسب ما ذكرنا- فإن حضارة وادي السند بدأت في الانهيار بالفعل قبل 300 عام من بداية وفود الآريين، كما ثبت أن الآريين ملئوا الفراغ الذي خلفه انهيار حضارة وادي السند في التاريخ الهندي.
لا توجد أدلة تاريخية واضحة لوصف تلك الحضارة، وكان الباحثون يمرون عليها مرور الكرام. كل ما لدينا هو سجل أسطوري في شكل أدب ديني يعرف باسم “الفيدا”، أحد أهم الكتب الدينية في التاريخ الهندي، وفيه تم تدوين قصص عن الحرب الهندية القديمة والأعمال العدائية، ولكنها بالطبع لا تُعتبَر مرجعًا تاريخيًا موثوقًا.
حسنًا، يتضح مما سبق أن الشعوب الآرية “الحقيقية” لا علاقة لهم بأوروبا أصلًا؛ فهم وافدون من إيران واستقروا بالهند. فما أصل ذلك الادعاء الأوروبي المزعوم أن الجنس الآري “النبيل” ينتمي لأوروبا؟
التلاعب بالمسميات وتمرير الكذبة
عزيزي القارئ، إن السطور القادمة تحتاج منك إلى تركيز شديد لتفهم طمس المسميات…
في بداية القرن التاسع عشر، أُطلِق لقب (الآرية) على اللغات الهندو-إيرانية، والتي تمثل فرعًا من شجرة لغات كبيرة أُطلق عليها (اللغات الهندو-أوروبية). تُعتبَر تلك الأخيرة من إحدى أكبر أُسَر اللغات في العالم، ويتم التحدث بها في معظم أنحاء أوروبا ومناطق الاستيطان الأوروبي، وفي معظم مناطق جنوب وجنوب غرب آسيا. بالتالي، ارتبطت كلمة (الآرية) لغويًا في الأذهان بكلمتي (الهند وإيران)، فالمصطلح هنا لغوي بحت؛ حيث أُطلق على مجموعة لغات، ولا يحمل أي إشارات عرقية.
يمثل القرن التاسع عشر بداية ظهور مفهوم تفوق العرق الأبيض على غيره من الأعراق، ظهرت الفكرة في أوروبا في خمسينيات القرن، وكان أول من دعا إليها هو الدبلوماسي الفرنسي “آرثر دي جوبينو – Arthur de Gobineau”، مدشنًا سلسلة لا نهائية من النظريات والممارسات العنصرية في أوروبا الغربية.
خلف (آرثر) السياسي الألماني “هيوستن ستيوارت تشامبرلين – Houston Stewart Chamberlain”، والذي يُعتبَر أول من استخدم مصطلح (الآري) ليشير به للعرق الأبيض، ونُسِب لهذا العرق الفضل في كل التقدم الذي أفاد الإنسانية. وبالطبع، هذا العرق متفوق على العرق السامي (اليهودي)، والعرق الأصفر (المغولي)، والعرق الأسود. وهنا -تحديدًا- ظهر المعنى العرقي للكلمة، وثبت في الأذهان أن كلمة (الآري) تشير للعرق الأبيض المتفوق.
بسبب ذلك التلاعب بالألفاظ، ذهب تفكير البعض إلى أن تلك القبائل التي تنقلت بين أوروبا وآسيا هم الآريون. وفي النهاية، نصل إلى أنه تم تمرير فكرة أن القبائل الآرية القديمة التي احتلت شبه القارة الهندية كانوا من الأوروبيين، تلك القبائل المتطورة التي شكَّل أدبها ودينها وأنماط التنظيم الاجتماعي لديها لاحقًا مسار الثقافة الهندية.
وبطبيعة الحال، كلما كان الشيء قديمًا أكثر، كلما يُعتقَد أنه أكثر شرعية وأكثر تفوقًا، فالقبائل الآرية انتقلت إلى الهند منذ 1500 عام قبل الميلاد. وهنا، نصل إلى محاولة ستر هذه المزاعم العنصرية بساتر شرعي تاريخي، وتمريره بسهولة للعقول؛ فهذا العرق قديم وعتيق جدًا، وبالتالي، له اليد العليا على باقي الأعراق، ليتضح أن التاريخ هو ما ميز العرق الآري وليس هؤلاء الدعاة!
اتجهت بعض العقليات المتطرفة إلى اعتبار العرق النوردي (سكان الشمال) والجرماني (سكان وسط وجنوب أوروبا) هم أنقى وأفضل أبناء العرق الآري. ومن هنا، أعلن الألمان -باعتبارهم أبناء العرق الجرماني- أنفسهم أحفاد السلالة الآرية النبيلة القديمة، وأعطوا لأنفسهم أحقية كاذبة في قيادة القارة الأوروبية، ومن ثَمَّ، العالم.
تنقلت تلك الادعاءات حتى وصلت لمسامع (أدولف هتلر) واعتنقها، بل وحارب من أجلها ومن أجل سيادة هذا العرق الآري، وبرر لتلك الغاية إبادة كل ما هو (غير آري)، وغيرها من الأفكار المسمومة التي ساهمت في إشعال حرب عالمية ثانية راح ضحيتها 70 – 85 مليون إنسان!
ومع ذلك، ومنذ أواخر القرن العشرين، بدأت بعض الأصوات العاقلة برفض كلٍ من: فرضية الغزو الآري، واستخدام مصطلح (الآرية) كتسمية عرقية. وواجهتهما بحقيقة هذه التسمية، وأنها تسمية عنصرية اجتماعية بدلًا من كونها لقبًا عرقيًا كما زعموا.