وينستون أورويل: رؤية مختلفة لرواية 1984
كُنا قد ذكرنا أنَّ الحياة الرتيبة لـوينستون قد قاطعها صدمة غَيَّرت من تفكيره، تلك الصدمة هي جوليا (وينستون الآخَر)، كانت جوليا النقيض لـوينستون، فهي لا تخشى من التفكير، مَرِحة، تشع نشاطًا، لا تهتم بحال النظام، ربما قد سمعت ذلك الشاب حين غَنَّى: “فليكُن ما يكن، بَدِّي أكون، بَعْدني واقِف عَم غني”.
كانت فقط تُريد أنْ تعيش وتَستمتِع بحياتها، وتَبًا لكل شيء يعوقها عن ذلك، أمَّا وينستون فكان يُريد أنْ يفهم ولعَمرى ما أصعبها غاية، كانا بحاجة لبعضهما البعض، فبجانب الشهوة الفطرية بداخلهما كانا يحتاجان أنْ يتحدثا لشخص يفهم ما تقول وتُراوِده نفس أفكارك، ولكي نعلم مَدى تأثير جوليا على وينستون نحتاج أنْ نَقِف على عِدة محطات في علاقتهما:
المحطة الأولى (الأمان):
من رجل يخاف من التفكير إلى شخص لا يَمل من الحديث في أي شيء، ولا يُنهي حديثه إلا عندما تنام رفيقته، ولولا نومها لظَلَّ يتحدث، وأمَّا عن جوليا فكان الشعور باللجوء والانتماء إلى شخص هو أكبر همها.
المحطة الثانية (التَذاكِي على النظام):
ما يُميِّز المُواطنين الذين فطنوا لما تُدبِّره الدولة في الخفاء -من قَتْل وسرقة وفساد وطَمْس للماضي وتحديد صورة المُستقبَل- أنهم يظنون أنَّ حَذرهم سوف يَقيهم سُوء العذاب، وأنَّ النظام بكل ما أُوتِى من قُوته وعُنفه لنْ يَقدِر على اكتشاف خيانتهم الفكرية له.
وجوليا ووينستون خير مِثال على ذلك، فكانا يختاران مواعيد مُعيَّنة ويسيران مُتفرقين، ولا يلتقيان كثيرًا وإذا رأوا بعضهما في مرة لا يلتفتان، واللقاء يتم في مكان شبه مهجور ظنًا منهما أنَّ ذلك سيُبعِد عنهما أَعيُن النظام وأَعيُن الأخ الكبير، ولكن هيهات.
المحطة الأخيرة (النهاية):
في نفس تلك الغرفة التي ظنَّا أنها ملاذهما، وأنها حصينة من تَطفُل المُواطنين الشُرفاء وأَعيُن النظام، فمن الجدار انبعث فجأة وهم يتحدثان كالمُعتاد صوت خرج من الجدار يخبرهما: “إنكما لمَيّتان”، وتمَّ القبض عليهما.
ما التُهمة؟
رَفْض ظُلم البلاد، التفكير والحُب.
المحطة بعد الأخيرة (البَعْث):
“لا يَملُك المرء أنْ يَشعُر بشيء سِوى الألم أو انتظار الألم”.
عقوبة جرائم الفِكْر التي بسببها أُودِع وينستون السجن ليس الإعدام، فقد كان هذا في الماضي، أمَّا الآن فَهُم يُعدِّون جِيلًا قادرًا على تصديق أكاذيب نفسه؛ أنْ يُؤمِن أنَّه لا يَعِي مصلحته، لا يُردِد أو يُفكِر في شيء سِوى ما يُقال له، بالأحرَى كما وصفها المُغنِّى:
“عايش معاه في سجن، وأنا السجَّان”.
بعد التعذيب الطويل، جاءت اللحظة النهائية لكي يُبعَث ونستون للحياة من جديد، أي تخييره بين أمرين: إمَّا أنْ يُعذَّب بأنْ يأكل فأر كبير وجهه، أو يمنعوا عنه ذلك ويُطلِقوا سَراحه إذا قَبِل أنْ تُعذَّب حبيبته جوليا بهذا الفأر، وكان الاختيار الثاني ما اختاره وينستون فأطلقوا سَراحه.
الحياة ما بعد البَعْث:
حين قابل وينستون جوليا، رأى ندبة كبيرة على وجهها، لكنه لمْ يَشعُر بشيء، كل مشاعر الحُب تبددت، كل الذكريات تلاشت وكأنها لمْ تَكُن موجودة، ودار حِوار قصير بينهما أخبرته فيه جوليا أنها تَفهَّمت ما فعله -بالتأكيد لمْ تُسامِحه- ولكنها تعلم أنهم يُعذِّبون الشخص إلى أنْ يَتمنَّى لو نُقِل هذا العذاب لأحبّ الناس إلى قلبه، بعدها لا يعود الشخص ذاته ولا يُمكِن أنْ يَرجِع كما كان، وافترقا عن بعضهما بهذه الكلمات.
ومضت أيام وينستون في دولة الأخ الكبير كما كانت، باستثناء أنَّ له غاية يُريد أنْ يُدرِكها الآن؛ وهي إقناع نفسه بحُب البلاد مهما فعلت.
كانت آخر كلمات وينستون: “أخيرًا انتصرت على نفسي وصِرت أُحب الأخ الكبير.”
المصدر: رواية 1984
كتابة: مصطفى طنطاوي
مراجعة: حمّاد بن عيسى
تحرير: أسماء مالك
تصميم: أمنية عبد الفتاح