مرت خمسة قرون على وفاة ليوناردو دافنشي (1452-1519)، مناسبة مهمة للتأمل ليس فقط في عمله المذهل وحياته ولكن ربما الأهم من ذلك في عقله، لأن عمل دافنشي يوفر رؤى عميقة في نظرته للعالم، ولكن نظرته للعالم توفر رؤى عميقة في عمله، وتميز دافنشي بعقل متعدد الأدوار والذي يتميز بالوعي الذاتي المتميز والفضول الذي لا يشبع والذكاء الاستثنائي والتنوع الذي لا مثيل له والشعور المتزايد بالخيال والرؤية الموحدة.
فضول ليوناردو دافنشي:
من المتفق عليه بين علماء الأنثروبولوجيا وعلماء السلوك وعلماء الأحياء التطوريين أن الفضول هو سمة إنسانية عالمية، وأكد دافنشي أن “التعلم لا يستنفد العقل أبدًا”، وأظهر أن الفضول مدى الحياة ليس مجرد سمة ولكنه موقف.
مثل الذكاء والإبداع يمكن للفضول أن ينقسم إلى نوعين في العقل: الأول التعمق الكبير في موضوع معين (وهذا فضول الأخصائي)، والثاني فضولي على نطاق واسع يدرس عدة مجالات ومواضيع (موسوعي polymath) وهذه طريقة دافنشي.
ومن خصائص الموسوعيون اتباع خط من الأسئلة مثل الصحفي الاستقصائي أو المحقق أي الشخص الذي يتفوق في مجموعة متنوعة من المجالات، وأشار دافينشي إلى العقل الفضولي الموسوعي بالجمع بين كل العلوم والفنون دون احتقار “من يحتقر الرسم لا يحب الفلسفة ولا الطبيعة” و”الموسيقى يمكن أن تسمى أخت اللوحة” و”إذا كان الشعر يعامل الفلسفة الأخلاقية، فإن الرسم له علاقة بالفلسفة الطبيعية”.
ويؤكد مارتن كيمب (Martin Kemp) مؤرخ الفن وأستاذ فخري بجامعة أكسفورد البريطانية والخبير البارز في شخصية ليوناردو دافنشي أن الفضول السمة المميزة في الموسوعي: “عقل ليوناردو هو عقل فضولي تمامًا كطفل: لماذا يحدث ذلك، ما الذي أبحث عنه، كيف يمكنني فهمه، وإذا كنت تجمع بين هذا النوع من الفضول الطفولي والقوة الفكرية الهائلة، فإنك تحصل على شيء ما للغاية قوية”.
أنظمة تفكير ليوناردو دافنشي:
حقق دافنشي رؤيته للعالم بطريقة موسوعية بادعائه أن المعرفة لم تكن “بناء” بل عبارة عن “شبكة”، وهذا يقودنا إلى مفهوم نظرية الأنظمة (Systems theory)، وتفكير الأنظمة المستنبط من طريقة تفكير دافنشي وعلماء عصر النهضة وفقًا لأحد أبرز مؤيديها الفيزيائي والكاتب النمساوي فريتيوف كابرا (Fritjof Capra) في كتابه الأكثر مبيعًا لعام 1975 (The Tao of Physics)، ساهم كابرا في تفكير الأنظمة من خلال استيراد عناصر من الفلسفة الشرقية لفهم العلوم الغربية الحديثة بشكل أفضل. أكدت دراسته حول تفكير دافنشي -الذي أعلن أنه مفكر النظم الأصلي- ارتباطه بالموسوعية.
يُعد تفكير الأنظمة قديمًا قبل عصر النهضة الأوروبية، وفي عصر التنوير تبنى المفكرون الغربيون إلى حد كبير نهجًا تحليليًا أكثر علمية للعلم والفلسفة من رواد علماء مثل غاليليو والفلاسفة مثل رينيه ديكارت وتوماس هوبز، وشجعهم ذلك على رؤية العالم من حيث المؤسسات الفردية أو اللبنات الأساسية، والتي يمكن فهمها بشكل أفضل من خلال التحليل بدلاً من التكامل.
ولكن أدرك بعض العلماء مع بداية القرن العشرين أن المعرفة في العلوم أصبحت مجزأة بشكل متزايد بين التخصصات الفرعية التي لا حصر لها، مما تسبب في غفلة الناس عن الروابط المتأصلة بين الظواهر الطبيعية ووحدتها. سعى جيل جديد من المفكرين العلميين إلى العودة إلى النمط التقليدي قبل التنوير للفكر الشامل وطوروه ليصبح إطارًا علميًا يسمى “التفكير في النظم”.
واليوم تم تبني مباديء التفكير في النظم وتطبيقاته من قبل القادة والمديرين في قطاع الأعمال والحكومة وكذلك في التخصصات الأكاديمية بما في ذلك الاقتصاد والبيئة والفلسفة وغير ذلك.
توسيع الوعي:
ليس واضحًا ما إذا كان دافنشي يمتلك رؤية عالمية تشبه نظرية الأنظمة، لكن نعرف أنه كان مهتمًا أيضًا بالأفكار الشاملة للشرق كالهند، ويهدف دافنشي (وأمثاله من الموسوعيين) إلى توسيع بيئة تفكيره للسعي الحثيث للمعرفة المتنوعة، باستعمال الطريقة الاستقصائية لاكتشاف وجهات نظر متعددة ومتابعتها وتجربتها ومعرفتها ثم تجميعها معًا بطريقة تتيح صورة أكثر عدلاً وكاملة عن العالم.
ساهمت طريقة دافنشي الموسوعية الشاملة لإثراء وجهة نظرنا الخاصة حول العالم بجمع التخصصات والمعلومات الكثيرة في صورة واحدة، قد لا تزيد من ميلنا إلى التعاطف والتفاهم الحقيقيين -الذي تشتد الحاجة إليه في مجتمع التعددية اليوم-، ولكن أيضًا لنوع من الحرية الاجتماعية والفكرية. إنها طريقة لاكتساب فهم أكثر شمولية للحالة الإنسانية أو باختصار الحصول على تعليم حقيقي.
كتابة: حمَّاد بن عيسى
مراجعة: محمود وحيد
تحرير: ميرنا عزوز
تصميم: احمد سرور