اتفقنا أن تكون جلستنا هذه المرة في شقتي، بعد وقتٍ قصير، فَعَل بالضبط ما توقعته. أخرج من جيبه قطعة حشيش ورزمة أوراق رقيقة، واستعد للف سيجارته.
صديقي المدمن يعلمُ برفضي للإدمان، فلم يحاول أن يعرض عليّ بعض الحشيش.
ذهبتُ للشرفة وتركته ينهي سيجارته، وفكرتُ أن أشجعه على ترك الإدمان.
فهل أستطيع؟
صديقي المدمن
أنا أحب صديقي هذا، فنحن أصدقاءٌ منذ الطفولة، مرت بيننا لحظات كثيرة سعيدة وأخرى حزينة.
لكن ما جمعنا دومًا هي صداقتنا الوطيدة. حتى بعد افتراقنا حين التحقتُ أنا بكلية التجارة واتجه صديقي إلى الرياضة وكمال الأجسام.
صديقي يتمتع بعلاقات طيبة مع أهله وفريقه، وكل من يراه يزعمُ أن له مستقبلًا باهرًا.
وهكذا آلمتني رؤيتي لصديقي المدمن يقع في فخ الإدمان وينال منه.
رغم أنه لم يصرح بهذا، ولكنني أستطيع ملاحظة ازدياد عدد وكمية جرعات الحشيش التي يدخنها.
“لا بد أن يكون حواري معه هذه الليلة مختلفًا”.
هذا ما فكرتُ فيه وأنا في شرفتي، حاولتُ إقناعه بالإقلاع عن تدخين الحشيش أكثر من مرة لكني لم أفلح.
قررت هذه المرة أن أفهم ما الذي يقدمه له الحشيش، وبمَ يشعر حين يتوقف عن تدخينه.
حواري مع صديقي المدمن
بعد قليل، كان قد انتهى من تدخين سيجارته، وعلى وجهه مظاهر الاستمتاع الشديد.
جلستُ بجانبه وسألته عما يشعر حين يدخن الحشيش.
تنهد صديقي قبل أن يقول وهو ينظر للسقف أنه يشعر بالاستمتاع واللامبالاة، وكأن كل همومه قد انقضت، ولم تعد هناك سوى الأحلام الجميلة.
سألته عن طبيعة الأحلام، فقال إنها أحلام الطفولة. أن يصبح رائدَ فضاء، أو عالم ذرة، هذه الأحلام تعاود الظهور تحت تأثير الحشيش. كذلك إن كان يرى أحلامًا مجسدة كنوع من الهلوسة، فأجاب أنها مجرد أفكار وليست أحلامًا حقيقية. أو إن كانت تلك الحالة من النشوة تساعده في حياته الواقعية، فأجاب بالنفي، تلك النشوة ما هى إلا أسلوب للهروب ولا تجدي نفعًا في الحياة الواقعية.
في هذه اللحظة، سألته عن تأثير الحشيش على حياته، فتذكير المدمن بسلبيات الإدمان تساعده على اتخاذ قرار الإقلاع عنه.
وبالفعل فقد ظهر الأسى على وجه صديقي المدمن وهو يسترجع الخسائر التي سببها إدمانه للحشيش.
لم يجب صديقي على سؤالي الأخير، لذا؛ سألته إن كان ينوى تدخين الحشيش لبقية حياته.
سارع صديقي بالإجابة بالنفي، مؤكدًا أنه حاول أكثر من مرة الإقلاع ولكنه فشل.
فسألته إن كان يرغب في الحصول على المساعدة.
أجابني بـنعم، وفي الصباح التالي كنا في مستشفى التعافي من الإدمان.
رحلة تعافي صديقي المدمن
في المشفى، أصر الأطباء على تواجد فرد من أسرة صديقي. قائلين أن تواجده في بداية رحلة التعافي سيدعم صديقي ويشجعه على إكمال الرحلة حتى نهايتها.
كان صديقي قلقًا من هذه الخطوة، وكاد يتراجع عن فكرة التعافي ككل، لكنه اقتنع في النهاية.
اتصلتُ بوالده وطلبتُ مقابلته، لم تكن المهمة يسيرة أبدًا. حاولت اختيار أكثر الكلمات لطفًا لشرح الأمر، لكنني في النهاية كنت أخبره بأن ابنه الرياضي الناجح… مدمن!
كان الأمر قاسيًا عليه كأب، الشيء الوحيد الذي خفف من وقع الأمر عليه. هو أن ابنه في المشفى ينتظره ليبدأ رحلة العلاج.
بدأ صديقي رحلة تعافيه التي دامت شهرًا كاملًا في المشفى، بالإضافة لجلسات المتابعة بعد التعافي.
حكى لي صديقي أن الأسبوع الأول كان الأقسى على جسمه، لكن الأيام التالية كانت الأقسى على عقله الذي أدمن تأثير التحشيش ويتوق إليه.
وحكى لي عن المتعافين السابقين المتواجدين في المشفى لتقديم الدعم، كان يراهم كأنهم قادمون من المستقبل يحملون له الأمل متجسدًا في أشخاص استطاعوا عبور الرحلة بنجاح.
صديقي المدمن لم يعد مدمنًا، وعاد إلى نجاحاته الرياضية، وحضر حفل زفافي بعد تعافيه بأشهر.
انتكاسة صديقي المدمن
كنتُ في المنزل أتناول العشاء مع زوجتي، حين وردني اتصال من رقم غير مسجل، لم أكن أرغب في ترك الطعام لكن إلحاح المتصل أقلقني.
وإذا بصوت صديق الطفولة يأتي واهنًا ضعيفًا متقطعًا عبر الهاتف، صحتُ به أسأله عما به، فأعلمني بمكانه بذات الصوت الواهن واستعجل مجيئي قائلًا أنه يكاد يفارق الحياة.
قدتُ سيارتي مسرعًا متجهًا نحو مكان صديقي، كان ذلك بعد تعافيه بعامين كاملين، عامان ظننتُ فيهما أنه أقلع تمامًا عن الإدمان. هل كان يخدعنا وعاد إلى إدمانه؟ أم أنه مصابٌ بمرضٍ لا أعرفه؟
كانت أفكاري مشتتة، كل ما كان يهمني وقتها أن أصل له وأنقذه.
وصلتُ له، كان على جانب الطريق مكومًا بشكل أفزعني، هرعتً إليه ونقلته لسيارتي وانطلقتُ به لأقرب مشفى.
كان التشخيص هو تسمم ناتج عن تناول جرعة زائدة من الترامادول.
صديقي صار مدمنًا مجددًا، وهذه المرة الترامادول وليس مجرد الحشيش!
دارت بذهني أسئلة عديدة: لماذا عاد للإدمان؟ ما الذي كان ينقصه؟ لماذا لم يطلب المساعدة؟ لماذا حتى امتنع عن إخباري؟
علامات استفهام عديدة لم أستطع توجيهها لصديقي الذي كان تحت رعاية الأطباء، وبمجرد استقرار حالته، تم تحويله لمستشفى التعافي من الإدمان.
هناك رأيتُ الألم عميقًا في عينيّ صديقي، كان الخزي والضعف يكسيان ملامحه، وتحولت مشاعر الغضب والحنق بداخلي لمشاعر تعاطف ورحمة. طمأنته أنني سأساعده وسأدعمه طالما أراد هو التغيير والتعافي.
رحلة تعافي صديقي المدمن من جديد
هذه المرة كانت الرحلة أطول وأعمق، صاحبها إعادة تأهيل نفسي قوية على مدار جلسات فردية وجماعية عديدة.
في وقتٍ لاحق أخبرني صديقي أنه كان يواجه مشكلة في الاعتراف بضعفه، فهو الرياضي الناجح ممشوق العضلات، ليس من اللائق أن يشعر بالضعف أو بالفشل.
حين خسر البطولة التي تدرب لها لأشهر، شعر بالفشل الشديد وبانعدام الجدوى من الحياة، وهذه كانت اللحظة التي تعاطى فيها الترامادول كأول مرة بعد تعافيه من تدخين الحشيش.
في اليوم التالي، شعر بالاستياء من نفسه، إذ انتكس وتعاطى مخدرًا، ولم يُذهب تلك المشاعر إلا جرعة جديدة من الترامادول.
وهكذا صارت حياته لحظات متتابعة من الإفاقة من المخدر والشعور بالفشل، والتعاطي للتخلص من هذه المشاعر السلبية.
حين تمكن صديقي من الاعتراف بضعفه أمام طبيبه النفسي، هنأه الطبيب على خطوته الجدية الأولى تجاه التعافي التام، فالاعتراف بالضعف يتضمن طلب المساعدة عند الحاجة، وهذا ما سيفعله صديقي فورًا إن شعر بأنه في مأزق.
صديقي المدمن الذي لم يعد مدمنًا
ها قد مضت 10 سنوات على اللحظة التي دخن فيها صديقي سيجارة الحشيش في شقتي. قضى صديقي السبعة أعوام الأخيرة منهم بدون أي مخدرات. انتقل إلى عالم إدارة الأعمال ويعمل لدى واحدة من الشركات الكبرى، وسخّر جزءًا عظيمًا من وقته لدعم المدمنين في رحلة تعافيهم.
كان هو زائرهم من المستقبل ليخبرهم أن التعافي ممكن. مهما كان الطريق شاقًا ووعرًا إلا إنه ممكن، فهو نفسه عبره قبلهم ويؤكد عليهم أن الأصدقاء الأوفياء الداعمين بصدق يخففون من عبء الصعاب، ويدفعونهم لإحراز التقدم في رحلة التعافي.
وكان يحرجني بكلامه هذا.
كتابة: حماس عبد الغفار
مراجعة: أميرة يحيى
تحرير: شدوى محمود