آينشتاين على حق لمرة أُخرى
للمرة الأولى تم تأكيد نظرية النسبية العامة لآينشتاين في سياق جديد، في حقل الجاذبية الأكثر تطرفًا في مجرة درب التبانة، الذي نشأ من ثقب أسود يُسمى الرامي أ ” Sagittarius A” كتلته تساوى أربعة ملايين ضعف كتلة الشمس في مركز المجرة.
كان آينشتاين عندما نشر نظريته قد اقترح ثلاث طرق لاختبار تلك النظرية وهم:
– مدار عطارد، وتأكد آينشتاين بنفسه منه باستعمال معادلات النظرية.
– انحناء الضوء القريب من الشمس، نتيجة لتأثير كتلة الشمس على نسيج الزمكان مما يؤدي إلى انحنائه، وكانت تتطلب مراقبة الضوء الصادر من النجوم القريبة من الشمس، وتم التحقق منها أثناء كسوف الشمس الكلي عام 1919م فكانت النتائج قريبة بما يكفي لإثبات صحة تلك النظرية.
– الازاحة الحمراء، وهذا موضوع مقالنا، وهي باختصار عندما يقترب الضوء من مجال جاذبية تفقد فوتونات الضوء طاقتها ويقل تردده أي يزداد طوله الموجي، ويتجه نحو الطرف الأحمر للطيف الكهرومغناطيسي، حيث نعلم أنه كلما اتجهنا من الضوء الأزرق للأحمر يقل التردد ويزداد الطول الموجي.
فقد استطاع العلماء مراقبة نجم يُسمى “اس 2” “S2” في مداره وعند اقترابه من الثقب الأسود تصرف ذلك النجم للهروب من الثقب الأسود كما تنبأت النسبية العامية. حيث ازدادت سرعته لتصل إلى 25 مليون كم في الساعة، أي 3% من سرعة الضوء.
وقال عالم الفيزياء الفلكية “رينهارد جينزل” “Reinhard Genzel” من معهد ماكس بلانك “Max Planck Institute” :”هذه هي المرة الثانية التي نلاحظ فيها المرور القريب للنجم S2 حول الثقب الأسود في مركز مجرتنا، ولكن هذه المرة بفضل الأجهزة الأكثر تطورًا، استطعنا رصد النجم بدقة لم يسبق لها مثيل”. وأضاف قائلًا: ” لقد كنا نستعد بشكل مُكثّف؛ لنحقق أقصى استفادة من تلك الفرصة الفريدة لمراقبة تأثيرات النسبية العامة”.
لقد كان النجم على بعد 17 ساعة ضوئية في أقرب مدار له من الثقب الأسود في مركز المجرة (أربعة أضعاف المسافة بين الشمس وكوكب نبتون تقريبًا)، نعم إنها تبدو مسافة طويلة بالنسبة لنا، ولكن حين نتحدث عن شيء له جاذبية مثل ذلك الثقب الأسود الهائل فإنها تعتبر قريبة للغاية. وفقًا للنسبية، عندما يقترب النجم من الثقب الأسود فإن تأثير الجاذبية للأخير يقوم بزيادة الطول الموجي لضوء النجم إلى أطوال موجية أطول، أي إلى الضوء الأحمر في نهاية الطيف الكهرومغناطيسي، هذه ظاهرة معروفة باسم الإزاحة الحمراء بالجاذبية (الانزياح الأحمر).
ومع ذلك لم يكن رصد النجم حول الثقب الأسود بالأمر الصعب، مبدئيًا يبعد الثقب الأسود عنا بمقدار 26 ألف سنة ضوئية، ويحيط بتلك المنطقة سحابة كثيفة من الغبار مما جعل رصد الضوء المرئي مستحيلًا. استخدم العلماء عدد من الأدوات على المقراب العظيم “very large telescope” أو “VLT” التابع للمرصد الأوروبي الجنوبي ” the European Southern Observatory”، تحتوي على مستشعرات للأشعة تحت الحمراء والقريبة من تحت الحمراء، يُمكّنها من اخترق الغبار وتلتقط مصادر تلك الأشعة، وتتمكن من الرصد. استطاع العلماء بتلك الأدوات قياس سرعة النجم ورسم مداره حول الثقب الأسود أثناء انحرافه.
و حصلوا بذلك على النتائج المتوقعة، فقد كشفت النتائج الجديدة بوضوح عن الإزاحة الحمراء، وهو أول تحرّي مباشر يتم عمله بالقرب من ثقب أسود هائل على الاطلاق، ليثبت مرًة أخرى نظرية آينشتاين للنسبية العامة
وعلّق خبير الفيزياء الفلكية فرانك ايزنهاور ” Frank Eisenhauer” بمعهد ماكس بلانك: ” استطعنا تحديد توهج خافت حول الثقب الأسود أثناء اقتراب النجم، مما سمح لنا اتباعه بدقة، حتى تمكنّا من اكتشاف الإزاحة الحمراء في طيف النجم S2″.
إنه الاكتشاف الأحدث في سلسلة طويلة ومثيرة من الاختبارات التي اثبتت صحة تلك النظرية مرارًا وتكرارًا. ففي الآونة الأخيرة، أظهر نظام النجوم الثلاث، وانحناء الفضاء الناتج من مجرة كاملة، واكتشاف موجات الجاذبية، الفيزياء بشكل جميل متناسقًا مع نظرية آينشتاين منذ مائة عام.
ولكن السؤال هنا، لماذا يستمر العلماء في اختبارها؟ فستكون الإجابة لأنه إذا اُخترقَت في ظروف ما، فسيؤدي ذلك إلى تغيير كبير في طريقة فهمنا للكون، وسنحتاج إلى شكل جديد من الفيزياء. وإذا كانت للنسبية أن تنكسر، فهذا على الأرجح لن يحدث إلا تحت ظروف متطرفة للغاية.
كتابة: ميار محمد
مراجعة: نِهاد حمدى
تصميم: محمد خالد
تحرير: رنا ممدوح